www.tasneem-lb.net

واحة تسنيم

واحة تسنيم - إخلع نعليك

إخلع نعليك

بقلم الأخ أحمد بزي

كنتُ قد أحضرْتُ حذاءَ العيد معي من بيروت إلى مشهد. اخترتُ لونه مائلاً إلى الأصفر. بُحَّ قلبُ أمّي وهي تخيِّرُني بحذاءٍ غيره لكنّني أصرّيتُ عليه.
صبيحة يوم العيد، إرتديتُ قميصاً أبيض، وفيه خيوط صفراء، وبنطالاً كحلياً. القميص والبنطال ليسا جديدَيْن. لكن لا مشكلة عندي في ذلك، طالما أنّني أخفِّف عبئاً عن والداي. خرجنا من المنزل الذي نقيم فيه منذ اثني عشر يوماً، أتوسَّطُ أمّي وأبي. كانت السّاعة الخامسة صباحاً. الناس يتدفّقون بالآلاف. 
كنت أُكثرُ النّظر إلى الأرض مخافة أن يتَّسخَ الحذاء، خصوصاً في الزّحمة، مع ضيق الشّارع. كان أمامنا سبعُ دقائق سيراً على الأقدام حتّى نصل. أمام أحد المنازل وُضِعتْ طاولةٌ عليها بعضُ الحلويات وعصير الشمّام. رائحة الغاز تفوحُ بشكلٍ كبير. وأمام منزلٍ آخر كان الناس يتحلقون في شبه دائرة. مددتُ رأسي قليلاً إلى الأمام، فرأيتُ من بين الأقدام بساطاً  تكاد الحلويات تُخفيه. 

تسرَّبتِ الرّائحة إلى أنفي، فحرّكتُ لساني قليلاً إلى الأمام، كأنّي أتذوقها. 
اقتربنا من باب المقام. الأذكار المنبعثة من مكبِّرات الصَّوت أصبحتْ أكثر وضوحاً. إنها الأذكار ذاتها التي يردِّدها الناسُ من حولي: "الله أكبر"، و"الحمد لله على ما هدانا". وبعد أسئلتي الكثيرة، راح أبي يحدّثني عن صلاة عيد فطرٍ في مدينة مَرْو بحضورِ الإمام الرّضا، هكذا كانت تُسمّى مشهد المقدّسة في ذلك الزّمان، كما قال لي أبي أيضاً. 
عند الفجر، اجتمع الموالون على باب دار الإمام الرِّضا ينتظرون خروجه للصَّلاة، والحرّاس يحيطونهم. جاء قادة الجيش، ومعهم مجموعة من الجند على الخيل. النساء والأطفال افترشوا السّطوح والطّرقات ليروا موكب الإمام. كان المأمون - وهو الخليفة العباسي في ذلك الزمن- قد أصرَّ على الإمام الرضا بالصلاة في الناس يوم عيد الفطر. فصرّح له الإمام أنه سيخرجُ للصلاةِ كما كان يخرجُ رسول الله، فقبِلَ المأمون بذلك.
طلعَت الشّمس. اغتسل الإمام غسل يوم العيد. لبس ثيابه، تعمّم بعمامةٍ من قطن. ألقى طرفاً منها على صدره. تطيّب. أخذ عصاً بيدِه. خرج بتلك الحالة وهو حافِ القدمَين. 
نظرتُ سريعاً إلى حذائي الأصفر الجديد، كدتُ أخلعه. كان بعض العلماءِ يمشون حفاةً، لكنّ الصغار كلهم ينتعلون أحذية جديدة. ارتحتُ قليلاً وعدتُ للإصغاء.
مشى الإمام بضع خطوات. شخصتِ الأبصارُ إليه. رفع رأسه إلى السّماء وكبّر، فكبّر النّاس. ثمَّ مشى حتّى وقف عند الباب. خرج مجسّداً سنة جدّه محمد، وليس كما يخرج بني العباس، فلما رآه الحراس والجنود على تلك الصورة، سقطوا من على خيولهم إلى الأرض. كبّر عليه السلام ثانية فكبّر الناس معه، كرَّر الإمام التكبير وهو يمشي بين الجموع، فَمشوا وعَلتْ أصواتهم بالتكبير. حتى ضجّت مدينة مرو بالتكبيرِ وبالبكاء والعويل. بلغ المأمون ذلك ففزع. أشار عليه وزيره أن يُرجع الإمام، ويمنعه من الصلاة. 
وصلنا إلى الحرم. افترقتْ أمي عنّا ناحية النساء. وضعتُ كلّ "فردةٍ" من الحذاء في "كيس" حتى لا يتسِّخ أبداً. تأمّلتُ القبّة كما اعتدت، وسلمت. جلسنا في زاويةٍ نتوقع أن لا تصلها الشمس في الصحن الرّضوي. ثم ألحَّيتُ على أبي أن يكملَ القصة قبل أن تبدأ صلاة العيد. أعاد على مسمعي آخر جملةٍ كنا قد وصلنا إليها حول خوف المأمون، وأكمل قائلا: بعد إشارة الوزير للمأمون، بعث الأخير من فوره رسالة إلى الإمام الرضا يعفيه من الصلاة، بأن قد كلفناك وأتعبناك، ولستُ أحبُّ أن تلحقك مشقّة، فارجع وليُصلِّ بالناس من كان يصلّي بهم. فرجع الإمام من دون أن يصلّي بالناس. 
لم أكنْ أتوقّع أن تنتهي الأمور هكذا. كنتُ أنتظرُ أن أسمعَ كيف صلى الإمام بالمئات من الناس، وماذا حدث في مدينة مرو، لكنّ خوف الجُبناءِ حال دون ذلك. حتى أنَّ أبي أخبرني أنّه وبعد رجوع الإمام في ذلك اليوم لم تنتظِمْ صلاة العيد أصلاً.
انشغلتُ قليلاً بترتيب الحذاء، كنت أحتفظُ بمنديلٍ معطّرٍ لتنظيفه. أصدرتُ أصوات "خشخشةٍ" بالأكياس، وعلى ما يبدو أزعجتُ العجوز الذي يجلس بجنبنا. وبرغم أنه ابتسم لي إلا أنّ أبي طلب مني الهدوء والتركيز. جلستُ على ركبتاي، ورحتُ أتخيّلُ لو أنّي المعرِّفُ للخطيب وأردّد: "بعد مئاتِ السِّنين جئناك بمئاتِ الآلاف في العيد يا إمام. أنت ترانا. تسمعنا. وتعلم شوقنا للصلاةِ في العيد خلف حفيدك إمام الزمان".. 
أعادني أبي سريعاً من تعريفي، وراح يعرّفني على عجلٍ بكيفية صلاة العيد، فقد بدأت الصفوف تنتظم. أثناء عودتنا من الصّلاة، كنت فرحاً بالسّير حافيَ القدِمين، فقد أضعتُ "فردةً" من الحذاء.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد