www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |22|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|22|

قد شغف محمد بجده حبا فكان يرافقه كلما راح إلى الحرم، لكن عليه الآن أن يفارقه؛ 
فعبد المطلب يريد أن يخرج مع سـراة قريش إلـى سيف بن ذي يـزن، في وفـد التهنئة، بعد أن ظفر عـلـى الـحـبـشـة ودحــر جـنـدهـم عـن بــلاده. وسـيـف بـن ذي يــزن هـذا، سـلـيـل مـلـوك الـيـمـن، اسـتـنـجـد بـكـسـرى عـلـى الأحــبــاش، فـاسـتـعـاد الملك والسلطان. 
كــان مـحـمـد شـديـد الـتـعـلـق بــي أيــضــًا، سألني ذات مرة: أماه، أين قبر والدي؟ أجبته: في دار النابغة بيثرب. 
قال: ألا تحمليني إليه!
أنـا أيضًا كنت أهفو إلـى لقاء عبد الله. فلما رأيـت ذلـك من  مـحـمـد، عـزمـت عـلـى الـرحـلـة إلـى يـثـرب بـولـدي وبـركـة، عـلّ محمدًا يتعرف إلى أخواله والصبيان وأركن أنا إلى مثوى زوجي الشاب. انتظرنا ريثما تنطلق قافلة إلـى يـثـرب لننضم إليها. 
لم تلُح لنا سواد يثرب إلا في فجر اليوم العاشر قد زارت مولاتي يثرب مـرة أو مرتين؛ فلها في هذه المدينة من تمتُّ إليه بصلة القربى، بيد أن محمدًا لم يزرها من قبل.

الجو ربيعي، والحرارة  لما تشتد. إلا أن غمامة -والأمر عجيب- كانت تظللُ محمدًا طوال الطريق، حيث لا ظلة ولا ظلال!
 مــا إن اسـتـمـرت أدراج الــركــب، حـتـى أحـسـت الإبـــل أيــضــا - بفراستها - أن الرحلة الشاقة قـد شـارفـت على الانـتـهـاء وأن وقت الخلود إلـى الراحة قد حـان وآن، فهدرت مرحة، وباعدت الخطى، ثـم لاحـت بين النخيل مـدرهـا وعواليها المقببة وتناهى إلى الأسماع صياح الديكة. 
نعم، ها هي يثرب بأزقتها الفسيحة الترابية، وها هو الركب بدأ يخطو وئيدًا في مهب النفحات الربيعیة الهادئة. 
لم يكد يصل الركب يثرب حتى تأثر بـالأجـواء الجديدة وخصال أهلها، فلانت منهم أيضًا الخلق ورقت الطباع. 
وصلنا مع القافلة قلعة بني النجار بحي بني قيلة. 
لما تم اللقاء بأهل المدينة، منحنا الجسم قسطًا من الراحة، بعد أن استودعناه ليزيح عنه ما لزق به من الهباء والغبار. ثم اتجهنا إلى دار النابغة، تلك المقبرة القريبة من القلعة.
عـلـى شـفـا الـبـلـدة، تـحـت ظـلال مـزرعـة ونـخـيـلات، لازمــت دار النابغة مكانها، كئيبة لتحتضن مثوى عبد الله الغريب، الوحيد بين أعلافها البرية.
 فـي تـلـك الـسـاعـة مـن الـنـهـار، كـان بـعـض منهمكًا بالعمل في الـمـزرعـة والبستان، وآخـر قـد خـرج إلـى الـسـوق؛ فخيّم على المكان صمت رهيب لا يخترقه إلا زقزقة العصافير. 
لم تــأذن آمـنـة لأحـد بمرافقتها إلا ابـن خـال محمد، صبي في مقتبل العمر خرج معها ليدلها على الطريق.
الوحشة كانت غريبة، والسكوت قاتمًا، وآمنة بدأت تشعر أن الزمن قد توقف عن الحركة والاضطراب. نم يا عبد الله، نم آمنًا من كل هم وغم ..  لقد سـرّت عنك المحنة فقرّ بـالـك وطــاب. 
نـم، هـادئ الـبـال، فما من أحـد تـراوده نفسه فـداءك، يا للموت من مجل ومذل.
هــا هــي آمـنـة تـتـذكـر عـنـد قــبــره، كـيـف كــاد قـلـبـهـا يـتـوقـف عن الخفقان ويتجمد في عروقها الدم، كلما خطر ببالها هواجس فراقه.
مولاتي، لو تأذني لمحمد وابن خاله بالعودة إلى القلعة! هذا مـا قالته بركة الشفيقة، الحنون، بينما كانت تـذرف الـدمـوع وتضع يدها على كاهل آمنة. أدنت بركة رأسها إلى أذنها لتهمس فيه قولاً أرادت أن تخفيه على محمد... عذرًا يا سيدتي: عذرًا من الأفضل ألاّ يراك محمد على هذه الحال! 
ردت عليها آمنة في لوعة وكآبة: فليرجعا، معك الحق يا بركة؛ فقلبه الصغير قد لا يتحمل ما يتضاعف عليه من الأحزان. 
اشتدت وطأة الصمت على المكان بعد أن ذهب الطفلان.  
يا لوداعة يثرب، يا للسكون والهدوء! لشدّ ما كان يعصر مزاره الشاحط قلب آمنة، فتزداد وحشة واغترابا.
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد