www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |25|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|25|

بذلت قصارى الجهد  لأنحي محمدًا عن صدر أمه، فقلت له: يا حبيبي، هي لن ترجع عليك جواب ولـمـا رأيــت عـلـى وجـهـه غـاشـيـة مـن الــوجــوم، أضـفـت قـائـلـة: جعلت فداك! هذي هي الموت.. الأم.. ماتت!».

 ها هي الحياة تنتعش من جديد، الفجر يعاود الانبثاق، والشمس تـسـتـأنـف الأنــفــاس، والـعـالـم الـعـجـوز يـسـتـعـيـد يــوما آخر من دهره الطويل. 
القافلة الصغيرة فـي طريقها إلـى مكة كانت  تشق - فـي كآبة -  قاحل الفيافي بهودجها الخالي.

أخــذ الـنـهـار يـضـطـرم مــن شـــدة الـقـيـظ، وراح وهــج الـشـمـس يلفح الـوجـوه، فهمّت بركة أن تأمر محمدًا بالعودة إلـى الـهـودج، إلا أنها انـصـرفـت وارعـــوت؛ خشية أن يتنصل مـن الـقـبـول كـمـا كـان يتنصل كلما تشير عليه بـذلـك؛ فنفسه لا تـطـاوعـه بـالـجـلـوس مجلس أمـه، رأسه في حجرها، حيث كانت تستند إلى الوسادة الصغيرة، وتضم وتربت على شعره بأناملها الرقيقة. 
كـيـف يـصـدقـان غـيـابـهـا، أعـنـي غـيـاب آمــنــة، كيف يصدقان أن صوتها الحلو الحنون، الشفيق الرقيق لن يعود يشنّف منهما الأسماع. خلال ما مر من الأيام، تمادى محمد في العويل والبكاء، فلم ينقطع عن النحيب، ولم يرقأ له دمع ولا عبرة، فتوجست عليه بركة خيفة وخشيت أن تزهق روحه المرهفة، فتفارق عوده الغض لتلتحق بأمه. 
لـم تـكـن تـتـرك مـحـمـدًا وشـأنـه  لـحـظـة - كـان عليها - إرضــاء لروح مولاتها، أن تهوّن عليه الخطب وتعود به إلى ّجده موفورًا سالمًا -حبيبي، ألست ظمآنًا!
 لا، ألا تواصلين قصة أبرهة!
 ألست مرهقًا؟ تعال لنتفيأ ظلال الصخور، ونرفه عن الجسم؛ فـنـسـتـعـيـد الـطـاقـة. ألــم تـكـن تـصـر أنــت عـلـى الإســـراع فـي الـعـودة، فلنسترح الليلة! 
قبل أن تلح الشمس على الأرض بلاسع وهجها، راحت غيمة تلوح في السماء رويدًا رويدًا لتمد على رأسيهما الظلال..
انطلقت بـركـة إلـى القربة المعلقة على البعير، وصـبت في القدح ثم قدمته لمحمد، قائلة: إشـرب، وإن لم تكن عطشانًا، فوطأة الحر شديدة، أخاف عليك منها. 
ما لبث أن عاودت بركة بقص أخبار أبرهة.
ها هو الصمت قد  استبد بالحاضن والصبي، فمدا البصر إلى الأفق البعيد حيث الشمس الجريح، آذنت بالرحيل. أخــذت جـمـال القافلة الضئيلة تـشـق طريقها وئـيـدا، وتمشي الهوينى، فقد هدتها الرحلة المتصلة، إلا أنها لم تنفك ثابتة تتكلف الـصـبـر. كـانـت كـركـبـهـا الـغـريـب تـقـلـب الـطـرف فـي الأفــق الـشـاحـط السحيق. انــبــرت بـركـة تـسـكـب فــي مـسـامـع مـحـمـد نـغـمـاتـهـا فــي هــدوء ولين. آه، يا لها من زمزمة شجية، تترنم بها هذه الأمة الحبشية!
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد