www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |34|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|34|


خلف محمد وراءه مـدخـلاً مـن مـداخـل الـسـوق، وشـق طريقه  فــي بـعـض الأزقـــة حـتـى بـلـغ مـسـفـلـة مـكـة، حـيـث مـنـحـدر الـسـيـول، ومـجـمـع الأكــواخ الـصـغـيـرة.
هناك بين أكمتين منخفضتين  تنهُد هضبة متسعة، يغصها ما يربو على الألـف من الإبـل.
كـل منهمك فـي أمـر مـا، هنا وهـنـاك: منهم مـن يـعـدل الرحل على ظهر الجمال وآخـر يقوم الأثـقـال، اعتلى محمد صـخـرةً، وأدار اللحظ يمنة ويـسـرة، خاسئًا وهو حسير فاندفع إلى طليعة الركب، وانتحى جانب على الطريق، علّه يرى أبا طالب إذا فصلت العير. 
آذنـت الطبول بالرحيل، فحلت الإبـل جثوتها، وقـامـت تخب مضطربة.
ما كان نصيب محمد من كل ذاك إلا حزن عنيف.. سحيق، وعبرات نضخت في مآقيه، لم يعد يملك لها دفعًا مع ما كان ينفق من الصبر الجميل. 
وقـع بصر محمد على عمّه بغتة، وهـو يتقدم القافلة، وصفّ الإبل الممتد بعوده الرجولي الجسيم
أنـا أيـضـًا كنت أضيق بفراقه  ذرعًــا؛ فهو كـل مـا تبقى لـي أخي لكنني لم أرَ غير الرحلة من بدا، ولم أجد سواها مخرجًا من شظف العيش وضنك الحياة؛  فعزمت على الرحيل إلى الشام بما كان في يدي من الوفر القليل. 
الـتـقـيـت بــابــن أخــي فــور انـطـلاقـنـا. كــان واقــفًــا عـلـى هـامـش الطريق منكفئًا محسورًا، يتخطى الركب ببصره، وهو كاسف البال، حزين، فما أن رآني، حتى اندفع متشبثًا بعنان بعيري. كان يبث الـعـويـل فـي الـفـضـاء ويبكي مـن الصميم ويـلـح عـلـي بـالـقـول: خذني معك يا عم، خذني»
رثـى لحاله أبـو طالب ورقّ له قلبه، فنزل عن مركبه، والدمعة تترقرق في عينيه ليقول: يا حياتي إنني أيضًا لا أقوى على الصبر عنك ساعة واحدة، ثم انتحى به جانبا! ثم التفت من فوره إلى غلام فـي الـركـب يـأمـره: انـطـلـق الآن بـجـواد إلـى داري وبـلّـغ أم طـالـب أن محمدًا انضم إليّ في ركب الشام؛ فلتجمع ثيابه في صرة ثم ائتني بها.
التقط أبو طالب بسبابته الرقيقة دموع محمد، وهي تطفر من مؤقه، وجعله ردفه على البعير.. مـا هـي إلا لـحـظـات حـتـى انـقـشـعـت عـن سـمـاء صــدر محمد سـحـائـب الـغـم والأســـى والـتـمـعـت سـحـنـتـه الـحـبـيـبـة، واسـتـشـرقـت كالشمس.. خــلــف الــركــب وراءه جــبــال شــمــال مـكـة الــجــرداء بـعـد أن مـر بالمعبر، ثم انحدر كنهر رفيع ينسال في عراء نشب فيه حريق.
زاغت مكة عن بصر محمد رويدًا رويدا وغابت بمعالمها إلا ما لاح في البعيد السحيق من جبال فاحمة لامعة بدت هي أيضًا قاتمة بعد أن اكتسحها عثير الإبل القاني. 
انطوى محمد غارقًا في أفكاره، يمعن النظر مرة في قدامه ثم يدير فيما حوله لحظه: ثمة، على اليسار قراريط، ذاك المرعى الذي انطلق إليه بضع مرات مع القطيع، وهناك في البعيد تلال.. ربوات مـنـخـفـضـة..
أمعن محمد النظر في المكان، فلم يستغربه، بل انكشف عن بـصـره الـغـطـاء، فتمثلت أمـام عينيه الأبــواء، وآمـنـة الـحـنـون، وراودتــه ذكرياته في السادسة من العمر. بساطة الطفولة وسذاجتها.. ويـا لعذوبة الكون في كنف الأم! هـاجـت فـي ذهـن محمد خـواطـر تـلـك الأيــام الـغـضـة القصير الـتـي قـضـاهـا مـع أمــه، حيث كـان يـعـود إلـى الــدار فـيـراهـا عـلـى انـتـظـار، وقد أعـدت له الطعام فتستقبله بقبلات حـارة تطبعها على وجنتيه وتمسح على رأسـه بدافق الحنان، ثم تغسل منه الرجلين واليدين، وتقدم له الطعام وترغبه فيه، لكنه الآن..
تـذكـر مـحـمـد والــدتــه، فـاسـتـنـزف مـن الـعـيـنـيـن دمــوعًــا سخية، وصب عبرات سجاما.
يتبع..

 


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد