www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |38|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|38|

 

فـي قـاعـة كـبـيـرة، مــد سـمـاط طـويـل مـتـنـوع الـطـعـام.
اتخذ كبار الركب مجلسهم حول المائدة، فقام بحيرى، يغدق عليهم عبارات الترحيب. تضوعت نكهة الطعام وفاحت رائحته،  إلا أن الأهـم من ذلك فرصة اللقاء براهب شامي يشار إليه بالبنان فضيافته تحملهم على الفخر والاعتزاز، وإن لـم يـكـونـوا على شريعة مـن ديـنـه؛ كــان بـحـيـرى مـمـشـوق الــقــوام، عـلـيـه رداء الـقـسـاوسـة الأســود الطويل، تخطى ببصره الـوافـديـن، فتمتم مـع نفسه، قـائـلًا: إذن أين المنشود المطلوب؛ فهو العماد لا من حضر! ثم التفت إليهم قائلاً: يا معشر قريش، كأنكم خلفتم وراءكـم ظهريا؟ 
نـعـم، جـئـنـاك عـلـى بـكـرة أبـيـنـا إلا غـلامًـا صـغـيـرًا تـركـنـاه عند متاعنا.
همس بـحـيـرى، متمتمًا: بـل هـو كبير عظيم، أعـلـم مـنـا جميعًا وأرجح عقلًا وأحزم.
كان أبو طالب جالسًا دون بحيرى، فالتقطت أذنه ما انفاحت بـه شـفـتـاه. فـلـمـا أشــار عـلـى فـتـاه الـراهـب أن يـدعـو مـحـمـدًا، قـرّ ابو طالب بالاً وهش سرورًا.
حـيـن وصـل ابـن أخـي، شـدّ بحيرى نـاظـره إلـى مـحـيـاه، ولبث شاخصًا إليه، ثم أجلسه إلى جواره، ولاطفه، محتفيًا به كل الاحتفاء.
تناولنا جميعًا الطعام ثـم شكرنا بحيرى والـرهـبـان. وإذ هممنا ترك المقام، استملهني بحيرى أنا ومحمدًا.
كأنه أراد أن يناجينا، ويهمس إلينا بأسرار كانت هي الغاية من صنع الطعام فانتظرته مليًا حتى ينبس بشفه، تـرك الـركـب الـمـكـان، فـدعـانـا بـحـيـرى إلـى غـرفـة. فــإذا جلسنا فيها، انبرى يسألني: ما هذا الغلام منك؟
- ابني.
شـمـلـه الاسـتـغـراب وتـمـلـكـه الـعـجـب؛ فـقـطـب الـجـبـيـن، وأدنــى الحاجبين الموغلين في الكثافة وقـال: لا، ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبـوه حيًا، لا بـد من أن يكون يتيم الأبوين منذ نعومة أظفاره!
 قلت متعجبًا: صدقت! أنا عمه، لكنني أؤثره على أبنائي.
 - ما اسمك، يا بني؟
- محمد
- أجـــل، هــو ذاك: مـحـمـد أو أحــمــد.. أســألــك بـحـق الــلات والعزى قل لي.
- لا تـسـألـنـي بـالـلات والــعــزى، فـــوالله مـا أبـغـضـت شـيـئـًا قط بغضهما.
- هو ذاك، هو ذاك! إذن أجبني  بالله صادقًا. 
- ثـق يـا أيـهـا الـراهـب العظيم وكـن على يقين أن ابـن أخـي لم يجرب الناس عليه كذبًا؛ فهو يبغض الكذب أشـد البغض، فاسأل ما شئت! 
- الحق ما تقول، يا شريف، لا تضق بكلامي؛ فإني لا اسأل إلا لحاجة في نفسي، والآن، يا محمد، قل لي ماذا تفضل؟ 
- الوحدة والعزلة
- وبم تفكر في العزلة؟ 
- بالخلق والكون، بالحياة والممات، بالآخرة ومثل ذلك..
مثل؟ 
- وما أحب الأشياء إليك في الكون؟ 
-الطبيعة. 
– ومن الطبيعة؟ 
- السماء والنجوم. 
هل تحلم كثيرا؟ 
- نعم
وبعد؟ 
- أرى أحلامي تتحقق في اليقظة.
 - وماذا ترى في المنام؟ 
بـغـتـة تـعـانـقـت الـنـظـرات مــن أبــي طـالـب والــراهــب الـعـجـوز، فالتمع في عينه الزرقاء الذابلة بريق أمل وانتعاش، فقال بلهفة: لم يبق علي إلا أن أقوم بعمل آخر: أتأذن لي أن أنظر ما بين كاهليه؟ الـتـفـت أبــو طـالـب إلــى مـحـمـد، فـلـم يــر مـنـه ردة فـعـل، فأخذ بتلابيب سرباله، وفتحها، ونزع عن كاهليه، فراغ إليه بحيرى ينظر ما بينهما، فلما وقع بصره على تلك الشامة بلون الخز الأدكن، فاضت عيناه عبرة، وأجهش بالبكاء صارخًا كالصغار، مقبلاً موضع الشامة والــدمــوع تـنـهـمـر مـنـه تــتــرى، فــقــال: الــســلام عـلـيـك يــا ســر الـكـتـب السماوية، يا وعد المنتظرين، السلام عليك يا أرق الأرواح وأرهفها، السلام عليك يا مظهر لطف الله.. والـذي نفس بحيرى بقبضته، إن هذا لهو الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وأخبر عنه السلف من الأنبياء والمرسلين. وأخيرًا التقيت به، آه.. يا لسعادتي الغامرة. ويا ليومي المبارك!
ثـم خــر ســاجــدًا، وقـــال: حـمـدًا لـك يـا رب حــمــدا، لـقـد قـر عيني برؤيته وانقضى أجل انتظاري، ذاك الانتظار البعيد على مدى السنين والأعوام.
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد