www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |49|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|49|

ها هي السوق تنتعش، وتعود إليها الروح، بعد أن نفضت اليد مع الظهيرة من العمل، فأقبل عليها - بعد هجعة - أهل المدينة زرافات ووحدانا، كـان تـجـار الـشـام - مـن وراء واجـهـة الـدكـاكـيـن  يـوعـزون إلـى الـمـرد والغلمان والأجــراء، أو كـانـوا منهمكين بتنضيد البضاعة أو تدبير أمـر البيع والـشـراء.. في فسحة غير  مسقفة من عتبة السوق، جلس محمد وميسرة على شفا الـراكـد من السلع، وقـد تعلقت منهما العيون بالطريق، متطلعة إلــى مـن يـطـمـح فـي الــشــراء.. 
تناهت بغتة إلى المسامع جلبة، وتصاعد من الطريق المؤدي إلى السوق ضوضاء، فأمسك كل لسانه عن الحديث، وانصرف عما كـان عليه من البيع والـشـراء، وأدار الـرأس صـوب اللغط: على حين فترة، تبين أن قافلة ضخمة وصلت دمشق تـوّا من فلسطين وهي في طريقها إلى السوق. وهـذا يعني أن بضاعة مكة ستنفق وتــروج! لكن تـرى هـل من ركـب يملك مـا يعرضه إلا ركـب محمد؟ كما يعني أن يـأس ميسرة سينطوي ويـزول ويقر منه البال ويهدأ، ثمّ يتبدد الشك في أهلية، محمد وجـدارتـه بـأمـر الـتـجـارة وتـدبـيـر الـقـفـل... فلو كـان العير يصل دمشق حين وصلها المنافسون، لما حالفهم الحظ ورواج السلع كما حالفه اليوم..

كـان الـلـيـل، وخـديـجـة جـالـسـة خـلـف الـنـافـذة، داخــل الـغـرفـة المطلّة على العرصة الفسيحة من الدار، ترنو إلى السماء، وتجيل الذهن في مصيرها... في وحدتها... وبـغـتـة، هـلّ عـلـى أفـق الـسـمـاء الـقـاتـمـة، الـمـوغـلـة فـي الـظـلام، ضـوء لامـع، فـسـار بـهـوادة ودنـا مـن الأرض، ثـم اشـتـد  لمعانًا واشـتـد حتى بزغت صفحة شمس مشرقة. وبـيـنـمـا كـانـت خـديـجـة مـنـبـهـرة بـالـطـلـوع الـمـفـاجـئ، ومـنـشدّةً بها ما استغربته كل الغرابة: حلقت ببصرها إلى النور الساطع، ألم فوق هامتها، الغزالة، ثم هبطت على العرصة بهوينى... بأناة، فتألق الموضع منها نورًا...  وتوهجًا. وهـنـا اسـتـفـاقـت خـديـجـة مـن الـغـفـوة، وقـعـدت الـقـرفـصـاء في الفراش، ثم ألقت من النافذة على العرصة، نظرة، والصبح كان قد أسـفـر فـلاح لها فـي تـبـاشـيـره، حـزم سلع مـتـراكـبـة، مصطفة، فـي كل موضع منها، هنا وهناك، انقطعت خديجة لرؤياها في انشراح: «ترى ما تأويل رؤياى
لقد أطلت عليها -بلا ريب- سعادة عظيمة. لكن... ما هي؟ أهـــي الأربــــاح الــبــاهــرة، أم مــا حــمــل إلـيـهـا الأمــيــن مــن فـريـد المتاع...؟ لا، هـذا لـيـس بـتـأويـل رؤيـاهـا؛ وإن كـان مـا عـاد بـها محمد من الأربــاح لـم تحصده مـن قـبـل فـي سـالـف الـرحـلات. وإن درّت عليها سلع الشام - كما تبين لها خلال الأيام الثلاث - أكثر مما درّته مكة. لا... لا، هذا أدنى تعبير للرؤيا! 
إذن مـا هـو تـأويـلـه... وأيـة سـعـادة تـريـد الإطـلالـة عليها؟ ليتها تعرف ليتها تتكهن...! نـزلـت خـديـجـة مـن الـسـريـر، وفـتـحـت الــبــاب، وراحــت تـنـادي مولاتها. جاءتها نفيسة.
–عمت صباحًا، يا مولاتي 
وعمت أيضًا! 
سيـدتـي، سيأتي الـيـوم لاسـتـعـراض السلع نفر مـن تـجـار مكة والطائف، وطلبت إلى الأمين أن يعرج علينا لاستلام الأجرة. مـا إن سمعت خـديـجـة اسـم مـحـمـد، حـتـى انـبـهـتـت، وتملكها العجب والحيرة، فتذكرت ما جرى معها منذ أيام...
مولاتي، جاء الأمين (قالته نفيسة). قفزت خديجة من على السر ير.
قنعت خديجة رأسها، ولبست فوق جلبابها الحريري الزاهي جبة سوداء، مطرزة بالذهب، ثم اتجهت نحو الرحبة. 
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد