www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - هـا هو اليتيم بعين الله |66|

ثقافتنا
هـا هو اليتيم بعين الله
|66|

في موهن من الليل، وجو تمازجه برودة وقشعريرة، أفاق محمد إثر هجعة قصيرة، ونزح بهامته عن رمال حراء الهشة، ثم قلع من باطن الغار رأسه، وشد بصره إلى الهلال الهزيل في كبد السماء، وهو يذر الضوء الضئيل الشاحب على جبال حـرّاء وثبير والبطاح الجنوبية، بينما غطت في سبات عميق، مكة ومـا يحيطها، بل العالم أجمع. 
لــم يـكـن مـحـمـد قــد لامـــس هـــذا الــصــمــت، ولـــم يـعـهـد هـذه السكينة على مدى قيامه الدائب في جنح الظلام، فانبرى الهدوء العميق يجرح أذنيه، وظلت الساعات عاكفة على ما كانت عليه، لا تراوح مكانها، ولا تزايله: خلد الكون لحظة. تأبد بـيـن الـدعـة والــهــدوء، كـانـت الآذان تـلـتـقـط - بـوضـوح - حتى صوت الزرع إذا نبت، والبرعم إذا تفتح انبثق في السماء بغتة ضـوء قـوي غريب، خطف بصر محمد وغـمـر مـنـه مـطـمـح الـنـظـر، فــســاوره الــخــوف، واعــتــرت روحــه رعــدة، وجسمه رجفة، ونال رأسه دوران ودوران.. ثم ضغوط وضغوط على الجسم والروح. 
شيء ما يبلغ الحلقوم، آنًا تلو آن، فتلم به آلام وآلام لا يطيقها محمد وإن كان صلب العود، ثابت الجنان، كأنها حشرجة الموت، سكرات الفناء، زهوق بطيء، قاتل للروح.
عاودته الرجفة وتسرّبت إليه هادئ الأمواج، لتغسل الروح في طيف نوري سائل، ولادة، نـشـأة مــن جــديــد. تــحــول لــلــروح. شـعـور بـالـخـفـة، ..  بالصفاء والشفافية، ثم انشراح للصدر وانكشاف عما يغطي البصر والأذن والعقل. 
يا لشد تحول الكون يا لحيويته، يا لجماله وعميق أغواره.. 
التف النور فجأة، ثم انبسط، فبرز منه كائن مهاب كل الهيبة، لم يبد غريبًا على محمد؛ فقد سبق أن رآه في أحلام اليقظة، لكنه فـي هـذه الـمـرة، اطـلـع عليه فـي أشـد الـوضـوح، فـمـلأ عينيه هيبة: تمثل له رجلًا رائع الجمال عليه جبّة خضراء من الديباج، في هالة  من النور السماوي. كان يراه أينما يقلب طرفه في الفضاء. تـعـالـى مـنـه صــوت رقــيــق، لـطـيـف لـطـف الـمـطـر، رنـيـن كـخـريـر السواقي والنهر: 
يا مح..مد!
أجابه محمد بصوت مرتعش: ن .. عم ! - إق.. رأ! 
– أنا.. ما.. ذا.. أقرأ؟ 
– باسم ربك! 
– كي.. ف.. أق.. رأ؟ 
– إقرأ باسم ربك الذي خلق! 
أنشأ محمد يقرأ معه:
– ..خلق الإنسان من علق.. 
إقرأ وربك الأ كرم.. 
الذي علّم بالقلم.. علّم الإنسان ما لم يعلم.
انتهت الـقـراءة، وخـف الـصـوت الـسـمـاوي، ثـم عـاد المتحدث إلى سابق هيئته، فـإذا بالطيف النوري الغامر يعتريه الشحوب، ثم يتوارى ويتوارى ..تـمـلـك  مــحــمــدًا الـنـصـب والــلــغــوب، فـشـعـر أن الـجـسـم مـنـه والعظام يدق في هاون، والبدن يتهافت. أحس بحرارة تضطرم في أتــون عــوده وهـامـتـه، ولامــس رعــدة هـيـجـان كـانـت تـنـتـابـه فـي ّشـدة. همّ ليقوم على بهت وحيرة، فخذلته الركبتان، وانثنت تحت ثقيل جسمه الأقـــدام، فانبطح عـلـى الأرض ممرغ الـجـبـيـن، مـنـخـرطًـا في البكاء ..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد