واحة تسنيم - فوق الغيوم
فوق الغيوم
(استشهادُ الوصي)
بقلم الأخ أحمد بزي
خلف النافذةِ في الطائرة، وفوق الغيم، مرّت طائرة أخرى بقربنا، قد صبغوا جناحيها بالأسود، وخطوا عليهما باللون الأبيض ثلاثة أحرفٍ منفردة "ع ل ي".
وبما أنّك سوف تشكِّك بذلك، سأكمل.
قيل أنّ النّاس إمّا عاقلٌ أو مجنون. وقيل أنَّ العاقلَ إما عاقلٌ فقط أو رشيد. ولم يربطوا الرّشدَ بالعمر. على أنَّ أهل الرّشدِ هم الهُداة.
جلس بقربي في الطائرة رجلٌ مجنونٌ غارقٌ في نعمةِ اللاعقل. لكن في باطنهِ على ما يَخفى عن كثير "رجلٌ رشيد".
سمح لي بعد قليلٍ من الودِّ في الله، أن أقرأ ما يكتبه على هاتفه، كانت شاشة صغيرة، ولكنها كانت كافية:
الواحد والعشرون من شهر رمضان، عام 1438.
"مالِكٌ" أنا. على بابِ النّار تسبيحي، ومَهَمَّتي: خازِنُها. سُعِدتُ حين انقضى الزّمنُ الذي كنتُ أذرفُ فيه الدّمعة سبعين مرّة في اليوم، على كلِّ نبيٍّ يُقتلُ بفأسٍ أو سِكينٍ تحتَ عينِ الشّمسِ أو خدِّ القمر.
مئة وأربعة وعشرون ألف نبيٍّ أبكيهمُ الليلة في عليٍّ. فالليلة لو يؤذنُ لي لأطفأتُ بدمعتي نار النّمرود لإبراهيم، ونار قريشٍ في طريقِ محمّد، ونار الغيِّ كلما توقّد.
أنا مالك. وبإذن ربي، سأردي المراديّ ابن ملجم كل يوم في الحُطمةِ، سأعبرُ به بعذاباتِ كلِّ زنيم، وأمدُّ بينه وبين الأشقياءِ عَمَداً من نار، فلقدْ قَتلَ الليلة الجنّة. قتل الليلة الجنة.
"رضوان". أنا رضوان. على باب الجنة أمضي الدهور بعد الدهور. وأمرُ القسيمِ عليٌّ عليَّ نافِذ، وصرخة جبرائيل "والله تهدّمت أركان الهدى" رددتها ليلة الجرحِ في أهل السّماء حتى تفجّعوا.
الليلة لو يؤذنُ لي لمزجتُ الكوثر من دمعي، وسقيتُ ورودَ الجنّة من جزعي، وشدْدتُ أطراف الأرضِ إزاراً على وجعي.
"الإزار"، أنا الإزارُ يا خازنَ الفِردوس. أنَّى تشدّني وما زلتُ أتعلقُ بالبابِ كلما مرّ الزمن. فأنا الذي غدوتُ أشْترِيّاً في حبِّ عليّ. أنا الإزارُ الذي صِحتُ بالإوزِّ عساها تمنعه الخروج. لكنّما ذرّاتُ عشقهِ شاقها عزمُ العروج.
يااا إزار! أنا الإوزّة الثّكلى. أنا التي حلت بينه وبين الرّواح. أنا التي على الأعتابِ استقرّت عبرتي. أنا أول زوّار المِحرابِ عند الضحى. أنا التي سمعتُ أبيات نعيهِ فلا تُمحى.
"أشدُدْ حيازيمك".. نحنُ آخرُ الكلماتِ الأبيات. خرجنا كالعصافيرِ من فيه يا إوَز، حلّقنا حوله نغطُّ على آثار أقدامه من أثرٍ إلى أثر، حتّى فرشنا الأجنِحة سجّادة صلاةٍ في محرابِ مسجدِ الكوفة.
أنا المحراب. أنا اليتيمُ الليلة، أنا من أيتام الكوفة أيضاً. بل أنا أشدُّ الأيتام يُتماً. أنا الذي سأشهدُ يوم الجمع على الليالي والنهارات، والسجدات والعبرات، والضربة. وأنا الذي أغبط محرابه في السّماء.
أنا السماء يا محرابه، أنا التي أبصرتُ كل أطراف الحكاية. أنا التي شاهدت في الكوفة بيوتاً تضاء إذا ما هتف عند الفجر للصلاة "ألله أكبر". أنا التي بكيت دماً. أنا الزّرقاء التي استحالتْ مظلِمة. أنا التي صليتُ خلفه آخر صلاة. أنا التي هتفتُ بأن سوُّوا الصفوف، واصطفوا للصلاة الأخيرة. أنا التي صحتُ دون أن أُسْمِع: "حُولوا بينه وبينَ ابن ملجم". ويوم أُطْوى كطيِّ السّجلِ للكتب سأبوحُ بالمزيد. أنا خزان الحكايات، من بدر، إلى أحد، وصفين، والجمل، والصبر اللامحدود.
حان موعِدُ الإفطار، رفعوا الأذان في الطائرة. سأل - الرّجلُ المجنونُ الغارقُ في نعمةِ اللاعقل، الذي في باطنه على ما يَخفى عن كثير "رجلٌ رشيد" - المضيفَ عن إمكانيّة الصلاة في الطائرة. صِرتُ أقرأ على عجل، مخافة أن يستعيد هاتفه من يدي.
أنا يا ملائكة الله، ويا إزار، ويا إوز، ويا كلَّ الجمادات والمتحرّكات، أنا عبده. خادمه. قنبرُ قنبرِه. أنا الذي أيقنتُ أنَّ علياً بكلِّ الوجود. وكل ما في الوجود لعليٍّ جنود. وهذه العِمّةُ على رأسي ليست لشهرة، أو بدعة. هي لأحدّث نفسي أنّ كلّ امرءٍ هو خيرٌ منّي وأتقى. فلا عقل بلا تواضع، ولا رشدَ بلا تقوى. لا رُشد بلا تقوى، وعليٌّ مدينتها.
سلّمتهُ الهاتف، راجعتُ في رأسي صورة إفطار عليٍّ، بعدها تناولت إفطاري فوق الغيم.