ذكريات ..مقاومة
ذكريات .. مقاومة
كان الوادي لا يزال عابقًا بروائح البارود التي لازمته طيلة ثلاثة وثلاثين يومًا من الحرب.
وكانت الحرائق قدنالت من الأحراش وبقيت بعض الأشجار التي كنا نختفي في ظلها حين تقبل الطائراتلتلقي بحممها مدوية مزمجرة.
أطلقنا خلال ذلكالنهار عددًا من الصواريخ نحو المستوطنات..
الوادي الذي كان طوالالسنين يعج بالطيور المختلفة. لم يعد يسمع فيه سوى الصمت الذي يخرقه انفجارالقذائف بين الفينة والأخرى، وكان الصيف حارًا جدًا..
وخلال الليل كانت بضعبوارج حربية تلقي بقذائفها على التلال فيلوح في الوديان ضوء كالبرق في ليلة شتائية.
كنت أنا وساجد قدأمضينا الأيام معًا منذ بداية الحرب، وكان قد لُقب آنذاك بـ "العطار"فقدكان يحمل بضع قوارير من العطر، ويوزعها بين الشباب، كلما مروا بنا.
عند الفجر، مضينا نحوواد قريب، لننصب الصواريخ ونحضرها، وكان ساجد يمضي أمامي مسرعًا ويحضر راجمةالصواريخ، وخلال برهة كنا نثبت الصواريخ، الواحد تلو الاخر، وقبل أن يشق النورأعمدة الظلام كنا نصل مكان الشجيرات، ملجأنا الأخير، الذي لم تنل منه القذائف بعد.
في مساء ذلك اليوم،كان العطار يصلي بجانب إحدى الشجيرات وعلا صوت الجهاز اللاسلكي: "عطار..عطار.. -"أجبت المتصل فقال: " جهز صواريخك الليلة. لدينا عمل".تذكرت الليلة الأخيرة من الحرب الماضية..
انتهى ساجد من الصلاة،فقلت ":لقد سمعت ..سأصلي لنذهب".
من يدري ..ربما تكونهذه آخر صلاة لنا.
لقد انتهت الحرب..ليلة أخرى ونودع الوادي.
-هياصل لا نريد أن نتأخر.
كان القمر قد بدأيرسل أنواره الضئيلة من خلف التلال، وكان ساجد يسير أمامي ورائحة العطر تفوح منه،فقلت له :إذا كان العدو في الوادي فستصل رائحتك إلى أنوفهم ولو كانوا على بعد مئاتالأمتار. ضحك مليًا، وتابعنا المسير.
كانت راجمة الصواريخقابعة تحت بضع شجيرات سنديان في القعر، وراح ساجد يرفع الغطاء القماشي السميكعنها، فيما كنت أهيئ المشغل الكهربائي .وفجأة علا صوت اللاسلكي :"عطار.. هلجهزت نفسك? "
-دقائقوننتهي.
عندما تنتهي أطلق ماعندك.
انطلقت الصواريخوانكشف الوادي مع كل انطلاقة بنور ساطع، فيما كنا نعود أدراجنا، وما هي إلا دقائقحتى سمعنا هدير طائرة تبعها انفجار مدوٍ .نظرنا إلى مكان الراجمة، كانت النيرانتشتعل فيها، ثم سمعت انهيار صخور وتطاير الحصى والأغصان خلفي،وتجمع الغبار والدخانورائحة البارود المحترق حتى النهاية، وسقط أحد الأحجار على قدمي فأحسست بها تسحق،ثم شعرت بحرارة في كتفي الايمن. ثم سمعتالعطار ينادي "علي.. علي.. هل أصبت?".
وصل إلي، وحملني علىظهره ومضى مسرعًا، وحين أفقت من اغماءتي سمعت هدير الطائرات ،وانفجار صواريخهاخلفنا، لكنني شعرت بأنها بعيدة جدًا.
وكانت آلام الجراح فيتلك اللحظة أقوى من أي شيء.
كان آخر ما سمعته تلكالليلة. صوت بوق الإسعاف، وعندما أفقت من المخدر، أبصرت قدمي ملفوفة بالجبس معلقةامامي، وشعرت بآلام عميقة في كتفي.
في اليوم التاليازدادت آلامي وبدأ الوعي يعود تدريجيًا. عند الصباح تناهت إلى أنفي رائحة عطر جميل،كانت قارورة عطر موضوعة على الفراش بقربي، أخذتها وقربتها من أنفي، فبدأت أتذكرأحداث تلك الليلة والعطار.
دقائق وسمعتصوته في الرواق ، وأقبل مع عدد منالأصدقاء وسلموا علي وقبلني ساجد في جبيني، وقال: لقد انتهت الحرب.. لقد انتصرنا احترقت دباباتهم وعادوا خائبين .