نسائم قرآنية
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} - مريم :٤.
نبي الله زكريا (عليه السلام) يشكو إلى ربه وهن العظم ، وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن ، فالعظم هو أصلب ما فيه ، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه .
ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا، والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما لتشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد .
ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه .
ثم يعقب عليه بقوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا) معترفا بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه ، فلم يشق مع دعائه لربه ، وهو في فتوته وقوته . فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه.
عرض متين من نبيّ أمين لشروط لاستجابة الدعاء ومقتضياته وعدم الموانع فيما لديه:
(رب) دون (يا) لتكون أقرب لفظيا كما هو قريب معنويًا فإن (يا) لنداء البعيد.
(إني وهن العظم مني) وإذا وهن العظم وهو المتن المكين فسائر البدن أوهن وسرعة الفناء إليه أهون.
(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) شعلة النور البيضاء حتى لا تبقي سوادا، فإنه بتعبير ما ألطفه عن تكاثر الشيب في الرأس كأنه مشتعل يقهر بياضه وينصل سواده، سرعة في تضاعف الشيب وتزايده وتلاحق مدده حتى يصير في الإسراع والانتشار كاشتعال النار، يعجز مطفيه ويغلب متلافيه.
(وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) لم تسبق لي منذ التكليف لحد المشيب شقوة في دعائك: دعاءك إياي فيما امرتني ونهيت حيث أطعت دونما شقاء وعناء، ودونما تعنت وكبرياء، وهذا من أصول إجابة الدعاء (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) فعهدي هو عهد العبودية الخالصة: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
(وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)
ومن عهدكم استجابة الدعاء (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)
(وَلَمْ أَكُنْ) فيما مضى (بدعائك) إياي وهو العهد الأول (رَبِّ شَقِيًّا) .
ولم أكن بدعائي إياك و هو العهد الثاني (رَبِّ شَقِيًّا) فان دعاء الأشقياء لا يستجاب، وإذ لم أكن شقيا بدعائك إياي لم أكن شقيا بدعائي إياك.
إلهي هذه سابقتي المشرقة في بعدين قبل المشيب، أفبعد المشيب وأنا أحرى بالاستجابة وأرحم أنت لا تستجيب؟
ربي رغم (إني وهن العظم مني) فلا يهن العزم منك، ومع أنه (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فرحمتك مشتعلة للشيب أكثر مما قبل المشيب، فحالي الضعيفة وماضيّ من حالي إذ (لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) تقتضي رعاية خاصة.