www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليـتيـم بعين الله |6|

ديننا
ها هو اليـتيـم بعين الله
|6|

 

فصلت العير عن مكة قبل خمسة عشر يومًا. ومنذ ستة أيام تسير في حيرة وذهول؛ فالهوجاء اشتدت بها وعاقت عليها الطريق، فما كادت تهتدي السبيل، وتاهت في البيداء.
بعد ثلاثة أيام من التقشف، نفذ الماء؛ وفي صبيحة اليوم الخامس من الحيرة، جنّت الابل جنونها من شدة الظمأ ، فجمحت نافرة تأبى الانقياد.
أربعون رجلاً من خيرة رجال قريش..! يا لها من تجارة كاسدة! ما أسرع الملتقى بالموت، وما أسخل مصرعنا. كيف لا، وقد ألقينا بأيدينا الى التهلكة! 

راح القلب يسكت عن الخفقان لما أحاطته الخيبة، وبلغ اليأس أقصاه. هنالك أخذنا نحن سادة قريش نلقي على أنفسنا سرًا وجهرًا اللوم والعتاب.
آه، ما أبعد الإنسان عن الإعتبار؛ فهو لا يزدجر، والعبرة لا تأتيه الا بعد فوات الآوان! ليت الإنسان يولد مرتين!
الجميع يعرف أنني لا أهاب الموت أبدًا، لكن الميتة هذه ليست منيتي ولم تكن فيها رغبتي، وما كان يبعث فيّ الهم أنني وجدت نفسي ضحية لجهل الآخرين.
من حيث لا أدري تذكرت ذاك الشبح وجالت كلماته في خاطري: تُرى لمَ كان يُصِرُّ على حفر زمزم. هل كان يريد لي هذه النهاية المشؤومة!؟

لما فكرت مليًّا، قلت متممًا: كلّا إن رب الكعبة أعظم شأنًا من أن يقدّر هذه المشيئة لعبده المطيع.
تناهت إليّ همسة من الأعماق همسة: " أيا عبد المطلب، لِمَ الغفلة، قم، قم!"
فقفزت في وثبة وقلت للصحبة: إنهضوا يا معشر الأصحاب، وانفضوا اليد من الحفر والحفيرة ميتة كهذه لا تليق بالإنسان! فلنَجِد جِدّنا من نشاط، ولنقف في وجه المصير، فلا نستسلم للموت صاغرين.
إنهضوا؛ فالموت في الطرقات خير من تحيّن فرص الهلكات.
في تلك اللحظة، كان الركب على أهبة الاستعداد ليسلموا أمرهم طوعًا إلى رجل كعبد المطلب. فما إن يتفوّه بكلمة، حتى يذعنوا إليه منقادين.
تحرّك عبد المطلب في الطليعة،..
بلغ الركب شغفة من الشغاف.
"ما هذا جبل!"
جبل تبيّنته العيون، انحدرت من القمة سهول معهودة منبسطة، الطريق  كـشـف عـن بـعـض مـلامـحـه، والـتـربـة أخـذت تتغير ألـوانـهـا بين الصفرة والـحـمـرة.

الغمة انكشفت، والموت انسلخ؛ فدبت في النفوس الحياة، ونـالـت قـسـطًـا مـن الـنـشـاط، مـن دون أن تـرتـشـف الـشـفـاه  قـطـرة من الماء، أو تلوك الأفواه  مضغة من الطعام. 
يا لفسحة الأمل من معجزة! ضجّ القوم بالغبطة، بل استخفهم الطرب فخرجوا عن الأطوار واسـتـعـادوا مـرح الـصـغـار وبــراءة الـطـفـولـة، ونـسـوا مـا كـانـوا عليه من العجب والتصعّر والتبختر. 
فبينما هـم عـلـى هـذه الـحـال، انهالوا على شريف مكة، الوجيه عند رب الكعبة؛ ليغرقوه باللثم والقبلات.
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد