أخلاق - ها هو اليـتـيم بعين الله |21|

ثقافتنا
ها هو اليـتـيم بعين الله
|21|

ولـمـا كـان فـي الـرابـعـة، حملتُه إلـى أمـه بعد أن جهزته: غسلته ودهنته وكحلته ثم ألبسته سربالًا ناصعًا وحذاء جلد ذا سيور. وإذا أردت أن أعـود بـه مـن مكة، أشـارت عليّ آمنة أن أتركه عندها ولا أحمله بعد. انبهت مستغربة وامتقع وجهي واغرورقت عيناي؛ فلم أر بدًا الا أتذرع بذريعة الوباء الساري في مكة آنـذاك، فداخل آمنة الذعر والخوف؛ ولم تعد تلحّ على رغبتها، وتصر.
عــدت بمحمد إلى خيامنا في غبطة وسرور، ثم بقي بين ظهرانينا بعض الوقت حتى جرى له ما جرى من عجيب الحوادث وغريبها؛ فتملكني الرعب والقلق.
عندما كـان يحين دوري للخروج إلـى المرعى، بالسرور كانت أمي  تعده وتدهنه؛ لينطلق معي إلى الصحراء مفعمًا بالسرور والارتــيــاح، حتى إذا حـل الـغـروب، رجـع معنا طلق الـوجـه، منبسط الأسارير. 
 وفي مرة من المرات، رجعت إلى الحي في شأن ما وخلفت ورائي محمدًا وأنيسة وحدهما فـي الـصـحـراء. وإذا أردت الـعـودة، أقـبـلـت أنـيـسـة - وقــد كـانـت فـي الـثـامـنـة - فـزعـة، مـلـهـوفـة، تـصـرخ:  أماه.. أماه أدركي أخي القرشي.. أدركيه.. قتل.. قتل.. سمعت حليمة الصراخ فخرجت مسرعة.. مضطربة الكيان، وهي تصيح: متى.. أين.. كنتم؟ 
انعقد لـسـان أنيسة، واحـتـبـس، فجرعتها شـربـة مـاء، والـدمـوع تنهمر من عيني..
وصلنا إلى المرعى، فإذا محمد هناك، رابط الجأش، يمسح بـيـديـه عـلـى ظـهـر جــدي أبــيــض، مـحـمـلـقًـا فـيـنـا. طــرتُ إلـيـه مـبـهـوتـة،  وانكببت عليه، أضـمـه وأقـبله، فكشفت عـن بطنه وصــدره، فلم أر فيهما أثــرًا للدم!!  الـتـفـتُّ إلــى أنـيـسـة، سـاخـطـة: كـيـف كـذبـت على أخيك؟.
آلت يمينًا أنها لم تكذب قط.
 حـمـلـت مـحـمـدًا عـلـى كـتـفـي، ورجـعـت بـه إلـى الـحـي.
أشار علينا أحدهم أن نأخذه إلى كاهن في عكاظ.

التقينا في عكاظ بكاهن من هذيلٍ، فـانٍ، امتدت به الحياة طـويـلا؛ فاشتعل فيه الشيب. 
قـص عليه أحـد الرفقة ما جـرى، 
قال متأملاً: هو ليس من ولدكم!؟ -هو ذاك. قلته مؤيدًا. 
وثــب مــن مـكـانـه وثــبــة ، وتـشـبـث بـتـلابـيـب مـحـمـد، وجــرّه إليه، اقتلوا هذا الغلام، لئن تركتموه وأدرك ليذلن دينكم. 

ظل محمد هادئًا، بينما جثم على صدري هلع عظيم، وتملكني الخوف من أن يهدر العجوز دم الغلام الغريب. وقبل أن أجيل الذهن في حيلة، انتفضت حليمة من مكانها لتنتزع محمدًا مـن مـخـالـب ذاك الـضـبـع الـهـرم.
وبـطـرفـة عـيـن، غـابـت حليمة مـع محمد وانـسـلـت عـن عـكـاظ، وتوارت به عن الأنظار. صارا كقطرة ماء غاضت في التراب.
رغم كل ما جرى وحـدث، ما طاوعتنا نفوسنا لنلحق محمدًا بـأمـه قـبـل الأوان. وإذا حـان وقـت الأوبــة، غسلته وعـطـرتـه، وجـهزته للقاء. 
وفــي بـعـض الـطـر يـق - عـلـى بـعـد فـراسـخ مـن مـكـة - نـزلـنـا عن مـراكـبـنـا لـنـسـتـريـح، ونـرفـه عـن الـجـسـم شـيـئًـا مـا. كـان هـنـاك نـفـر من النصارى، قد أوقدوا للطبخ نارا، ما إن استرقت منهم النظر على محمد، حـتـى سـألـونـي عـنـه، ثـم بــدا لـي أنـهـم يـكـيـدون بـه كـيـدا وقـد سولت لهم أنفسهم اختطافه، إذ رأونــي وإيــاه على انـفـراد. فبينما أسندت ظهري إلى بعيري المنبطح، سمعتهم يتهامسون: فلنذهبن به إلى ملك الحبشة سني الجوائز. 
اصطكت ركبتاي من هول ما سمعت، فانتهزت الفرصة للإفلات، ركبتُ محمدًا على ظهر البعير، وأمعنت في السير نحو مكة. ثم لا أدري ماذا حل بهم من بعدي.
وأخيرا شارفنا سواد المدينة بعد أن طال بنا السرى سبع ليال.