أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |27|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|27|
ولّى محمد وجهه كدأبه عند الأصيل شطر المسجد الحرام راضيًا، وإن مسّه اللغوب ونال منع الاعياء، بعد أن قضى يومه في إعانة مسكين، فامتلأ قلبه دعة وارتياح.
كان محمد ينحدر برجليه الضلئيتين في دروب مكة، فيمعن في السعي إلى جدع فتضاعف الانحدارات حث أقدامه التي لم تعرف استواء الطريق أو اعوجاجه.
يستوعب محمد بنظراته مكة، فيراها بركة ماء، رشقت بغتة بحجارة سوداء، فامتدت بها الأمواج في حلقات.
استكانت الكعبة كأنها شذرة: بناء مربع، شامخ يحيطها فناء رملي، ومن حوله دور رفيع العماد.
تطل الكعبة بنوافذها وأبوابها كأنها العيون أو الثغور. تربعت الدور حول الحرم في حلقات صغيرة، ثم اتسع منها الشعاع شيئًا فشيئا.
هنا وهناك، انفردت نخلات، اشمخرت بهاماتها بين الباحات..
نشّف محمد بأهداب كوفيته البيضاء نداوة وجهه المغسول، ثم وازن على الرأس عقاله الصغير، فداعب وجهه نسيم عليل أخذ في الهبوب إثر الغروب.
مد محمد النفس في زفير وشهيق، فاتخذت أنفاس الخريف إلى رئته السبيل..
لم يكن محمد يتلهف الى لهو الأطفال ولا سيما بعد أن تضاعف يتمه..
عند مدخل السوق المؤدي إلى باب بني هاشم، التقى محمد بحفص بن مرة جالسًا عند عطّار، يتجاذب معه الحديث. حيّاه محمد تحية المساء، والبسمة العذبة لا تراوح شفتيه. كان حفص فظًّا عبوسًا غليظ القول إلّا مع محمد.
إلى جد محمد سيد مكة كان أولوا الفضل والسعة يدفعون خرجًا لرفادة الحاج والسقاية وإدارة البلدة إلا حفصًا، فقد كان يأبى الدفع، على أنه ذو حظًّ عظيم من الأموال.
فإذا حان وقت الحج انطلق عبد المطلب إلى دار الندوة ليطلع على الحساب ويوعز الى عماله ما يلزم من الايعاز.
ودار الندوة هذه، كانت تجتمع بها قريش إذا همّت بأمر أو أرادت رأيًا أو اتخاذ قرار.
كان محمد عند جده يوم دار الحديث عن حفص بدار الندوة فقال بعض ألا طاقة لنا به، ولا حيلة لنا في أمره، فهو شحيح يعنف من نبعث إليه.
قال عبد المطلب ببسمة ألا نرسل إليه ابني محمدًا هذه المرة؟
حذره النادي عمّا عزم، فرد عليهم فلنجرب!
هذا وقد أدرك محمد يومذاك من العمر التاسعة إلا نصفًا، لكنه انصاع لأمر جده فانصرف إلى دار حفص فرأى بابه مفتوحًا على مصراعيه فلم تطاوعه نفسه بالدخول بل قرعه غير مرّة، ونادى صاحب الدار بأدب واحترام فما لبث أن سمع حفص الطرقات، فأهاب به: أدخل أيا كنت!
كان حفص لدى مدخل الفناء إذ دخل محمد حيّاه فلم يرد بل بادر السؤال: من أنت، وفيم؟
أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
عادت إلى محياه إشراقة فسأله لم تقل فيم جئت؟
قال يقرئك جدي السلام، فقلت كلئتك الآلهة ورعتك يا للفصاحة ولطف البيان سأفي بوعدي وزيادة وهل يُضنّ على سائل مثلك؟
شكرني شكر الرجال، فسألته أمعك أحد؟ أجابني لا فأشرت على بعض الغلمان أن يزوّده بخمس من الإبل ويركبه السادس هدية.
استغرب العبيد لما رأوا حفصًا في سخاء وإسراف.
انسل محمد بين ثنايا المتحلقين بعبد المطلب فذهب حتى جلس على البساط فهش له جده وفسح له موضعه..
ما ان التقى عبد المطلب بحفيده حتى أعرض عن الحوار مع السراة، لينقطع إلى محمد بالحديث:
أين كنت منذ الفجر يا بني؟
شغلنا البناء أنا وعمي حمزة وبعض الصبية
بناء أين؟ لمن؟
بكوخ عذيب بن مهدل
ذاك الأعمى المسكين
نعم
حياك الله يا ولدي أحسنتم.