أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |33|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|33|
آخــر نـجـيـمـات الـلـيـل الـسـابـحـة فــي سـمـاء الـصـبـاح الـبـاهـتـة أدركـهـا الـشـحـوب، واحــدة تلو الـواحـدة.
انـسـل محمد، بـسـرعـة، وهـو غـارق فـي الأفـكـار؛ فقد استيقظ مع الفجر ولم ير عمه إلى جنبه في الفراش. تفقده في باحة الدار فذكرته زوج عمه أن إيلاف رحلة الشام الصغيرة، فلم يجد له أثرًا، وأبو طالب قد انطلق ليلتحق بالركب، هـام أبـو طـالـب بمحمد وشـغـف بـه حـبًا فـلـم يـكـن ليصبر عـلـى فـراقـه سـاعـة مـن لـيـل أو نـهـار، هــذا مـا أحـسـتـه منهما فاطمة ولامسته حقًا، فلما رأت الضيق يطفو على وجهه الصغير، وتنازعه لهفة الشوق، أذنت له بالذهاب ليودّع عمه قبل الانطلاق.
كــان زوجــي أبـو طـالـب مـولعًا بمحمد أشد الولع، ففي مضي السنوات الأربـع، لم يهنأ له بال ما لم يخرج معه محمد.
لا زالت بركة وليجة محمد. وهـا هـي فاطمة زوج عـمـه، تلك العقيلة الشريفة مـن بني هـاشـم أخــذت تمنحه مـن الـحـب البالغ؛ كانت فاطمة له أمًّا رؤومًا، عطوفًا، إلا أن لأبي طالب محله الخاص في قلبه؛ فقد كان يشم منه رائحة جده، ويلمس فيه خصاله ويمثل له أبًا لـم تكتحل عـيـنـاه بـرؤيـتـه.
كـان يـرى أبـاه وأمـه وجـده، فيهون عليه اليتم في السخي جنبه، وهـا هـو أبـو طالب قـد عـزم على مفارقته، والرحيل عنه إلى تجارة الشام.
لما حضر جدنا الوفاة، انضم هو الينا في دارنا. كان أبي انذاك فقيرًا معوزًا، لا يسعه أن يهيئ لنا من الطعام شيئًا مذكورًا، ومائدتنا هي أيضًا لم تضم ما يقيم أودنـا. وعلى ذلك لم يكن والدي يبسط يدًا إلى مأكل أو مشرب ولا يـأذن لنا بذلك إلا بعد حضور محمد، وكان يهيب بنا صارخًا: كما أنتم حتى يحضر! وإذا حـضـر، فـاسـتـقـرت مـنـه نـظـرة عـلـى ضـآلـة الــطــعــام، تـبـلـغ بالقليل وقنع بالزهيد والدي على الأكل بإلحاح وإصرار».
وذات مـرة تـوّجه الى أبو طالب بالقول عمي العزيز، لم لا تأذن للأولاد بتناول الطعام إذا غبت عن الخوان.
رد عليه مبتسمًا: كلا، يا ولدي، كلا أنت خفيف بل مبارك؛ فإننا لم نكن قبلك -يا حياتي- نملك من المال شيئًا يـذكـر، وهـا هـي المسكنة تـخـف علينا بـحـضـورك ثـم تـخـف. هـذا ما يشهد به الجميع حتى ابني الصغير جعفر.
لاحت على محمد أمارات الاستفهام والعجب فعاجله بالقول: ذات ليلة، إذ بت في دار أبيك مع الحاضنة بركة - وقد اعتاد محمد على ذلك - قال جعفر بعد تناول العشاء: يا ليت ابن عمنا كان معنا الآن سألته مستفسرًا لأجتلي ما في ضميره: لماذا؟ الآن!
رد بلحنه الطفولي: معه نشبع، بل نفضل من الطعام بحضوره. قال ذلك، بينما لم يكن عشاؤنا تلك الليلة أقل من مثيلاته.. لـقـد كــان مـحـمـد - مـنـذ أمــد - عـلـى عـلـم أن مـلـجـأه الـوحـيـد ومـأواه الوثيق على وشـك الرحيل إلـى الـشـام، فـاسـودّت الدنيا في عينيه وأحس أن المدينة بمن فيها قد ران عليها متراكم الغبار، غبار الغربة غبار الوحشة ورنقت سحب الهم الصفيقة في سماء قلبه، وطـالـت عتمة قاتمة أفـق حياته.
أجـل، منذ ذلـك الحين أخـذ يبكي، لكن الخجل ســاوره؛ فلم يتجرأ أن يـسـأل عـمّـه الانـصـراف عن دم رحلته، والبقاء معه، ولم يتمكّن أن يطلب مرافقته؛ فليس من دأب الـعـرب فـي رحــلات الـتـجـارة أن تصطحب الـصـغـار، مـمـن لـم يبلغوا مبلغ الرجال.
يتبع..