أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |40|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|40|
لما هم محمد ليخرج بالقطيع، توجه إليه أبو طالب بالقول: ولدي، إن خديجة قد أبلغتك رسالة.
خديجة الطاهرة؟
- نـعـم، يـا ولــدي، إن بـعـلـهـا قـد مــات كـمـا تـعـلـم مـنـذ أمــد واســعـًـا، وتــرك لـهـا مــالاً مــمــدودًا وثـــرًاء، وترسله إلى اليمن فـي رحلتي الشتاء والـصـيـف، ومنها تحمل إلـى مكة السلع والمتاع.
كـان غلامها ميسرة يعمل في مالها إلا أنها جمعت العزم لتعرض عليك الـخـروج فـي تجارتها، كما أخبرنا ميسرة الـبـارحـة، إذ أصحرت مع القطيع.
غطّ محمد هنيهة في التأمل، ّولفه الصمت؛ خـديـجـة كـانـت ببكة تنفق فـي وجـوه الخير والـمـعـروف، تـرابـح رجــال الـمـال مـن الطبقة الدنيا، بل هم كانوا يتجرون بعريض أموالها. ونفر غير يسير من الملهوفين يستقرضها إذا أعـيـت بـه الــدرب واشـتـدت بـه الـحـال، فـلا تـرابـي أو تأخذ أكثر مما أعطت،
كان محمد على معرفة ما بميسرة، ذاك المولى الكهل، المربوع القامة الذي بدت على عريض صفحته السمراء أمارات الطهر والورع والنبل. لقد كان أهلًا لأن ينال ثقة تلك المرأة واعتمادها. لكن تُرى لِمَ عزفت عنه خديجة، وتريد أن تؤمّنه هو على مالها؟
إلا أن هـذا الـتـسـاؤل لـم يـأخـذ بـجـمـاع تفكير محمد أو يشغل باله، بل كان يفكر في عمه والأعباء التي أثقلت كاهله، وما أخذ ينوء بـه مـن نكد العيش وضنكها؛ فقد تقدّمت بـه الـسـن، ونـاهـز النيف والخمسين، وهو لا يزال يعيل خمسًا ولم يعاود الخروج للتجارة ثانية بعد رحلته مع محمد إلـى الشام، ثم إن أولاده لا يمكن عقد الأمل عليهم، فـهـذا طـالـب لـم تــرق لـه حـواشـي العيش بـعـد ليرفد والـده ويعينه، وذاك عقيل يعيقه العمى، وهذا جعفر غلام غض الصبا لمّا يشتد عوده، والبنتان لا حرج عليهما. كان محمد يفكر في الوسيلة التي يخفف بها عبأه على عمّه، كي لا يكون عالة عليه، فخرج أول الأمر بأنعام عمه، بضع ماعز وجمال، يرعاها في البادية، وبعد أن استودعه الأعمام القطيع وكذلك الأقرباء ، للرعي في الصحراء.
وها هو الآن قد قارب الخامسة والعشرين، فعليه أن يقوم بمهنة أخرى يسعف بها عمه، ويعينه على همه فأطرق رأسـه وقـال: كما تريد يا عم، وتشاء.
يتبع..