أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |43|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|43|
غـدا أبو طالب لبعض شـأنـه، ووعـده بـالـعـودة لحظة التوديع، وعقيل وطالب أصحرا مع السحر، وخرجا بالقطيع. فلم يبقَ بالدار إلا فـاطـمـة، زوج عـمـه الــرؤوف وابـنـتـهـا. فـودعـهـا، ومـسـح عـلـى رأس الصغيرة بحَدب وحنان، إلا أن فاطمة لم يهدأ منها البال. كأنها أم رؤوم، تودع ثمرة الفؤاد، فازدحمت في حلقها غصص العبرات؛ مما تكلفت البسمة، وهي ترافقه حتى الباب.
استعدت قافلة خديجة للانطلاق، وقد لاحت بينها خمسمئة زاملة حـمـول وبـضـع إبـل رواحــل ظـعـون. وقـد تـدلـت على الـهـامـة والأذن، منها شرابيب حمر مـن صـوف. مـع القفل - عـدا ميسرة - خمسون أجيرًا، كثير الترحال، يشرف علی أمرهم محمد.
أودع مـحـمـد كــل رجــل عـشـرة مـن الإبــل، وسـلّـم مـيـسـرة الإبـل الخمس، اعـتـادت قـريـش أن تختار مـن رجـال قوافلها مـقـدمًا تستند إلى رأيـه، وترجع إلى أمـره، وتقدم له يد الطاعة.
في هذه الرحلة، كان محمد يقود أكبر القوافل، وإليه انضم بالسلع نفر من بني هاشم. قدمنا نحن وبنو هاشم محمدًا، ووافقنا حمزة، كمّي مكة، فأبى عمرو بن هشام الانصياع، فاستشاط حمزة ًغيظًا؛ فقبض على سيفه ليشهره في وجهه، فبادر إليه محمد، قائلًا: أغمد سيفك، يا عماه، ولا تستفتحوا سفركم بالشر، دعوهم يسيروا أول النهار، ونحن نسير آخره، فإن التقدم لقريش.. ثم سار الركب.
تلاحقت روادف الإبـل قدمًا وهـي تبعد الخطى فـي اليابسة نحو يثرب. كانت تناهز ثلاثة آلاف، وقد أخذ حراستها ثلاثمئة. ما زال الركب يعتلج بصدره غم الحزن في نفوس الرجال والبعران؛ فها هم الركبان قد انطووا على أنفسهم
كــان عـمـرو بــن هـشـام فــي طـلـيـعـة الــركــب، يـعـيـنـه حـلـيـف بني مخزوم، عمار بن ياسر. ســارت وراء ركـب عـمـرو، قافلة خديجة الـعـريـضـة، المنقطعة النظير، يتقدمها محمد على ظهر بعير فاقع اللون، ومـن ثـم قوافل بني هاشم وبطون قريش.
- طاب يومك يا أمين!
نظر محمد قدامه، فرأى عمارًا قد انسحب إلى الوراء ليحرس مؤخرة ركب أبي حذيفة
- وطاب يومك أيضًا، يا أخ!
مـا إن طرقت عبارته سمع عـمـار، حتى طفح الـدم فـي وجهه، فغلفت بشرته النضرة السمراء، حمرة مشرقة
ما هذا الذي يسمعه!؟
فتى عالي الشأن، رفيع الكعب، سري مـن ســراة قـريـش، وحـفـيـد سـيـدهـا، ومـقـدم أكـبـر الـقـوافـل، يخاطبه بـالأخـوة، يخاطبه هـو، ابـن العبيد الـذي لا يـقـدر إلا بثمن بـخـس، لا يربو على سعر بعير...!!
خـالـجـه مـزيـج مـن مـشـاعـر الـسـعـادة والـخـجـل، فـأجـابـه بـعـبـارة قصيرة نمت عن إحساسه شكرًا لك يا سيدي! فـرد عليه محمد: ببسمة حنون.
ولـمـا تـقـدمـه عـمـار ببعيره، وأحــس مـن فعلته بـالـحـرج، خاطبه محمد بالقول: لا حرج، يا عمار، فبين الأحباب تسقط الآداب!
الركب طوى قاعًا صفصافا، وخلّف وراءه أرضًا مستوية جرداء ثم فاض في فج عميق خلال جبال قهرتها لفحات الشمس ولهيبها.
زاغت مكة عن الأبصار، وغابت منها الشعاف والشعاب. واحيط العير بعاري الجبال، بصخور بأحجار، هنا وهناك..
يتبع..