أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |45|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|45|
مضت ليال أربع، والركب لا يزال في وادي البلاياي الليلة الأولى، أيقظتني حبات المطر، ومن حولي صرخات « فانطلقت أبحث عن سيدي الأمين، فرأيته يُصحي النيام ويرشدهم فالتحقت به، وأنا على روع ووجل»
تساقطت الأمطار في شدة لم يكن لها ند من قبل ولا نظير، وانهمرت السيول من الجبال، كالأنهار الواسعة العريضة، فالتقت عـنـد مـوضـع، ثـم انـسـالـت فـي الــوادي مـنـدفـعـة عـبـر مـجـرى صغير شهدت بأم عيني كيف جرفت السيول الرجال والإبـل، وكل ما كان مع مصعب من المتاع.
كان هو ورجاله يستصرخون من ينجدهم في ذعر وذلة وهوان، لكن كـلًا كـان فـي شـأن يغنيه، فـي حـيـرة مـن أمــره وأمــر بضاعته، إلا محمدًا، كان ينظم صحبه، ولا ينفك يصيح فيهم أن انجوا بأرواحكم، واتـركـوا الإبـل والـمـتـاع، بيد أن أحـدهـم لـم يعره أذنًـا صاغية.
وأخيرًا أطل النهار في أعقاب ليلة ليلاء. ولما ارتفع الضحى، انقشع السحاب الداجن، وأقلعت السماء؛ فها هم الرجال يبحثون عن الإبل الشاردة. وها هو الحظ يبدو أنه حالفهم إذ اتخذت الإبل - بطبعها - بين الرعب والظلام طريقها نحو العوالي، فلم ينجرف مع السيول بعير وذاك ركـب خديجة، لـم يمس أثقاله ضـرر مـا؛ فـإن ميسرة كـان قد أوثق شدها. وكذلك كان شأن بقية القوافل إلا ركب مصعب...
لما انحسر الظلام عن المكان، عرفنا أننا نجونا من السيول إلا بعيرًا لعمرو بن هشام، فهو - كما يظهر - قد انحدر نحو الشعب منتجعًا جميعًا فحملته السيول معها. لكن مصعبًا هلك وعشرون من رجاله ولم يسلم من غلمانه إلا خمس؛ بعد أن شقوا عليه عصا الطاعة؛ فلم ينحدروا معه إلـى الــوادي. رأيناهم فـي الليلة الثالثة، وهــم نــزول مـن الـشـعـاف، فـأحـاطـونـا بـمـا فـعـلـوا عـلـمًـا فـأوعـز إلـيّ سيدي الأمين، قائلاً: يــا مـيـسـرة، أطـعـمـهـم، واكـسـهـم الـثـيـاب، وإذا مــا عــزمــوا على العودة إلى مكة، فزودهم بما يعينهم على الطريق من الماء والطعام، فنفذت ما أمر.
رجع القوم إلى مكة مشاة؛ ليخبروا بني جمح بما جرى وحدث.
وفـي الليلة الـرابـعـة، لما رفعنا الرأس عن الوسادة، رأينا بني مخزوم تستعد للأوبة إلى مكة؛ فالطريق كان مفتوحًا. لمّا شهدت ذلـك منهم، رحـت إلـى سيدي لأستعين بـه على الرجال يشدوا الرحال، ويستعدوا للانطلاق.
وقفنا جميعا محملقين فيه إذ خـاض محمد ناحية من الماء، ثم تابع السير وئيدًا، والإبل تتبعه دراكا.
لــمــا اجــتــاز الــمــاء بــســلام، هــلــت الــقــوافــل مـبـتـهـجـة وزغـــردت مـسـرورة. وانـدفـعـت جميعًا وركـب عـمـرو بـن هـشـام وراءهــا؛ فصار بـذلـك قـفـل خـديـجـة يــرأس الـعـيـر، ويـسـيـر فـي طـلـيـعـتـه قــدما حتى بُصرى.
يتبع..