أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |50|
تربيتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|50|
فـي حـلـتـهـا تـلـك، بــدت قـامـتـهـا الـنـاهـضـة الممتلئة أكـثـر وقــار وهيبة. وافــت مـحـمـدًا، وهـي تـلـثـم وجـهـهـا المنبسط الـمـشـرق بطرف الـقـنـاع، فلم يبد منه، إلا كثيف الحاجبين، وحـور العينين بأهداب متموجة.
- طابَ يومك، يا محمد! –
وطابَ يومكِ أيضًا، يا ابنة العم
كـان محمد جالسًا على كـرسـي، وعليه رداء ناصع نقي، ومنه فاح في قاعة الاستقبال أريج.
جلست خديجة أمامه على أريكة، فجاءت نفيسة تحمل كأسًا من شراب السكنجبين. فقدمتها بين يديه، ثم جلست - بإيعاز من خديجة - على حافة من الأريكة.
غــضّ مـحـمـد مـن بـصـره، وعـقـف الـيـديـن عـلـى الـركـبـة اليمنى، دون أن ينبس ببنت شفه، فقالت خديجة، وقـد خفضت ببصرها إلى الأرض: يا أمين، لك مما اكتسبت من الأرباح، نصيب وخلاق، فاطلب ما تشاء!
قـال محمد: أربـاحـك مـن فضل الله، ولـم أكـن أنـا إلا الوسيلة والسبب، فأنا أخصك بنصيب منها، سيقدمه إليك ميسرة. ثم قالت: ماذا عساك أن تفعل بالأجرة هذه، يا بن العم؟!
فوجئ محمد بالسؤال، فتمهّل في الـرد هنيهة، وقـال: لعمي عليّ حق عظيم، نويت أن أضع بين يديه كل ما اكتسبته من الأجر؛ عسى أن أوفي بعض ما له عليّ لكنه رفض وأبى. هو يريد أن يعد لي به عدة الزواج.
ألقت خديجةً نظرة على نفيسة، وتطلعت هي إليها، منشدّةً، فقالت نفيسة: حسنًا، يا أمين، لقد تبادر إلـيّ من قبل أن أسألك مـا منعك مـن الــزواج، وفيك الشباب والـوسـامـة، والصحة، والطهر والسداد؟
فقالت خديجة: يا بن العم، هل لك أن أختار زوجة ممن أراها صالحة؟
رد محمد في استحياء: نعم.
قالت نفيسة: امرأة من بني قومك، فريدة بين نسوة مكة في الـجـمـال والـطـهـر والـمـال والـكـمـال. صبا إليها كثير مـن رجــال العرب والأشــــراف، لـكـنـهـا لا تـرغـب إلا فـيـك، امــرأة قـنـوع، عــون لـك على السراء والضراء.
ثـم عـقـبـت خـديـجـة بـالـقـول: بـيـد أن فـيـهـا عـيـبـيـن: قـد عـرفـت قبلك رجلين، وتكبرك خمس عشرة سنة.
تأمل محمد قليلًا وسكت، ثم قال: ألا تسمينها؟
–إنها سيدتي، وسيدة قر يش، خديجة!
ما لبث أن شمل جبينه الناصع حبات الـعـرق، وطغت حمرة قانية على محياه المشرب شفيف الاحمرار.
أطال محمد السكوت، فبادرته خديجة بالقول: ِلم لا تتكلم، يا بن العم؟!
رد محمد بصوت خافت: أنـت يا ابنة العم ذات مـال، وأنـا فيه قل وعليّ أن اختار الكفء.
- مـا هـذا الــذي تـقـولـه، يـا مـحـمـد؛ فليس بـيـن الـعـرب أشـرف حـسـبًـا ونـسـبًا ، ثـم إنـه لا مثيل لـك فـي الـصـدق. فـيـك رغبتي لما حدثني عنك ميسرة وسواه، ولما توسمته أنا، فيك، فإن شئت وهبتك نفسي ورؤوس أموالي كلها، والغلمان والإماء. سكتت خديجة برهة، حتى إذا رأت بوادر الرضا عليه، قالت: أحسن الظن يا بن العم فيمن أحسن بك الظن.
يتبع..