أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |52|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|52|
خرج أبو القاسم من الغرفة، فأرسل إلى الباحة نظرة. كان الجو ثمة عـلـيـلاً، وقـد ران عليه الـهـدوء؛ إذ انقطع عنه هـديـر الـنـاس الهائل، وهياجهم ليلة الأمس بنهارها. وها هي مكة قد لفها عذب سكون، إثــر وبـيـل الأمــطــار ومـتـصـل صـبـيـبـهـا، والـسـيـول الـجـارفـة الـجـمـوح. فـلـم يـعـد يتناهى إلـى الآذان إلا الـغـلـيـان، غليان الحياة والأحياء والدواب، غليان مدينة شمخت برأسها أمام كابوس مرعب، جثم على ليلة منها ونهار.
هبّت على المدينة أنسام هادئة شمالية، جاءتها وابل الأمطار تلك، هب من وراء الوهاد والجبال، في آخر شهر خريفي، إذ انبثق منه الفجر الأول؛ فحملت إلـى فـقـراء مكة الـعـراة، ممن لـم يجربوا الـقـر بـرودة وقشعريرة.
حمد محمد ربه واستعاذ بـه مـن كـل شـر وبـلاء، ثـم استدعى، ميسرة.
انهمك ميسرة على السطح، معه زوجـه، وبـركـة وحليمة وزيـد بإصلاح خيمة خديجة، وإعادة نصب قبتها الحريرية، ما إن سمع ميسرة نـداء محمد، حتى انطلق إلـى حافة السطح، ثم أحنى بظهره نحو الأسـفـل، وهبط إلى الدور الثاني.
نعمت صباحا، يا ميسرة!
ونعمت صباحًا، يا سيدي! أراك في شغل شاغل!
نـعـم، يـا سـيدي أنـا منذ الفجر أتـفـقـد الـجـدران والسقوف والسطح ثم تريث قليلاً، وأضاف: قد راح المطر بصاروج السطح؛ فـهـو بـحـاجـة إلـى الــردم، وكـذلـك شـأن أسـقـف الـغـرف الـمـطـلـة على الـزقـاق؛
مـــاذا عــن الـــدور، ولا سـیـمـا تـلـك الـتـي فــي الـهـاويـة وعـلـى ضفاف السيول؛ لا بدّ أن صبيب المطر والسيول قد أصابها بضرر فادح؟
- نعم، هو ذاك، لكن لم يتسنّ لي أن أخرج من الـدار لأتحرى الأنـبـاء. قالها ميسرة، منكس الـرأس، وصوته الخفيض ونبرته ينمان عن الندم وتأنيب الضمير؛ فقد كان يعلم حقًا أن البلية إذا ّعمت، تساور مـولاه الخشية على فقراء المدينة والعاجزين قبل أن يتملكه الخوف على نفسه وأهله.
يتبع..