أخلاق - هـا هـو اليتيم بعين الله |54|
ثقافتنا
هـا هـو اليتيم بعين الله
|54|
زيد وهبته مولاتي لسيدي، فأعتقه هو، وانطلق به إلى الحرم، وتبناه - على عادة العرب - أمام الحجر الأسود.
وكان ذلك بعد ثلاثة أعوام من زواج سيدي ومولاتي، وابنهما القاسم، لا يزال رضيعًا، وعلى هذا كان سيدي يعز زيدًا كل الإعزاز، ويؤثره بالمودة والحنان،
وبـعـد سنتين مـات الـقـاسـم، فــازداد محمد بـزيـد حـبًّا فلم يكد يفارقه، بل كان يصطحبه أينما حلّ وذهب.
كـان زيـد وراء مصرعي الـبـاب الواسعتين، على جهة اليسار، جـالـسـًا عـلـى صـفـة صـخـريـة ضـخـمـة، تـحـت قـبـو صغير يعلو الـبـاب. ومـا إن وقـع بصره على أبيه بالتبنيّ، حتى قام بين يديه، فضمّ محمد بحرارة، راحته إلى راحته الرجولية، ثم انطلق الأربع نحو الأحياء، وسط المدينة وضواحيها.
بدأت مكة تستعيد أنفاسها رويدًا رويدا إثر يوم وليلة من وابل الـمـطـر، وذاك الـسـيـل الـعـرم. وهـا قـد انـفـسـح الـمـجـال أمــام الـنـاس ليمدوا برؤوسهم خارج الدار، ويتحسسوا الأخبار.
انطلق صوب الحرم، والشوق إلى الكعبة قد أخذ يبرح بروحه المرفرفة، وإن كان يعرف حقًّا أن قد لا يتسنى له الطواف، لما لاح به من معالم السيل، في ساحة الحرم.
لقد صـدق ظـنّـه: رأى الـنـاس مكتظين على بـُعـدٍ مـن الكعبة، وقد اشتد منهم اللغط، فعلم أن السيول لا زالت طاغية. طامة؛ مما يشق عليهم التّقدم أو الاقـتـراب. فما خطوا خـطـوات يسيرة حتى شاهدا أكوام الطين والأحجار، قد أحاطت بالكعبة، وأخذت عليها كل سبيل.
طم الماء، فناهز الحجر الأسـود،
رمق أبو القاسم الكعبة بأسىً وحسرة، واستنكر حالها مستغرب كيف دنـس جهل الناس بعد ٢٥٠٠ سنة بناءها المتواضع العتيق، ومنضود أحجارها العارية من الملاط، ولوثت غفلتهم الظاهر منها والباطن.
الـنـاس، نـسـاءً ورجـــالاً وصــغــارا كـانـوا يـتـجـاذبـون الـحـديـث عن الـسـيـل وخــراب الـكـعـبـة. وثـمـة فـتـى واقــف عـنـد محمد وزيــد، تنثال الـكـلـمـات مــن شـفـتـيـه وتــتــطــايــر؛ فـيـسـمـعـهـا مــن حــولــه. كـــان يـلـهـج ؛ بالحديث في ولع ويقول: لقد خفَّ السيل كثيرًا فالمكان كان قد غصّ بالماء، لما وصلته عند الفجر؛ رأيـت أنـا أحدهم يسبح حـول الكعبة، لم أتبينه قد أغبش، ولم أتمكن من رؤيته؛ لأنه خرج من ضفة أخرى.
تعالى من طليعة القوم صوت جهوري معهود، يمازجه الطعن والـسـخـريـة: لا بـد أن هلع السيل زاده إيـمـانـا بعد إيـمـان، فلم يعد يـقـوى على مغالبة الـرغـبـة فـي الـطـواف، أو زيــارة الأصـنـام، فانطلق صوب الحرم وقتئذ، ولم يصبر ريثما يخف السيل والماء!!
يتبع..