أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |60|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|60|
يبدو أنه حل ذكي في خضم معركة الحيرة والخطر تلك وخير سبيل لـتـرك الـسـلاح، وإطـفـاء مـا أوقــدوا مـن نـار الـنـزاع، فـالأمـور به ستؤول إلى حسن مآل. أسـرعـوا إلــى إمــلاء الــشــروط، كـي لا يـشـوب التحكيم ريــب أو شكوك، والتفتوا مـرةً أخـرى إلى أبي أمية، كأنه هو الـذي ينبغي أن يرد على كل ما يتبادر إليهم من سؤال، فيزيل الغمرة ويجلي المحنة
يجب ألا يكون من حاضري المسجد الحرام!
– نعم، ينبغي ألا يكون على اطلاع مما نحن نريده.
قــال الـزبـيـر: سـأجـعـل عـلـى كـل بــاب مـن أبــواب الـحـرم الأربــع، رجالاً يمنعون الخروج، ثمّ انسل من حلقة الأشراف لينفذ ما وعد.
- وكيف إذا دخل الحرم اثنان أو أكثر معًا؟
- بــاب بـنـي شـيـبـة؟
- قال الوليد: ينبغي أن لا يكون ًطفلا أو امرأة.
– لا يجدر أن يحكم بيننا فاسق أو سيئ صيت.
- بـأبـي أنــت وأمــي، يـا أبــا طـالـب. أحـسـنـت فـيـمـا قـلـت، لقد أدّيت حق الكلام. أجل، تحكيم هؤلاء والإذعان لأمثالهم، عار أبدي على قريش.
- عليه أن لا يؤثر بطنه إن كان من قريش
- يا عمرو، هذا الكلام - وإن كان صحيحا - يعقّد المسألة. فمن يتسم بالطباع الآنفة لا يجوز الشك فيما يذهب إليه، مهما كان.
قال الوليد: كما تريد يا أبا أمية. إذن فلنختم الحديث ونباشر العمل
أمسك كـلّ لسانه، وانطلق نحو بـاب بني شيبة. ثم ارتقى أبو أمية ركام أحجار وصاح عاليا ليسمعه الجميع: نبدأ! ،
انقطعت الـضـوضـاء دفـعـةً واحــدة، وخـيـم على الـحـرم صمت عـمـيـق
دارت الـــرؤوس جـمـيـعـا، فـصـاح أبــو أمـيـة مـسـتـبـشـرًا من على الركام: هذا الأمين!
قــال الـولـيـد فـي رضــا: الأمـيـن سـديـد الـــرأي، صــادق الـفـعـل، صائب الحكم، يحكم بالعدل، ونحن بنو مخزوم نرضى بتحكيمه.
ضـم الأشــراف مـن قـريـش - فـي ارتـيـاح - أصـواتـهـم إلـى صوت الوليد .. أقـبـل الأمـيـن بـقـلـب جـريـح، مـمـعـنًـا فـي أفــكــاره، مـنـقـطـعـًا لـهـا. لكن ما إن رفع رأسه، حتى رأى حشد الناس محملقين فيه، وتلقاه أبـو طالب بمزيد من الرضا والارتـيـاح ثم تـداركـه بالإخبار، لينزع عنه الحيرة، ويزيل الدهشة. أطـرق محمد رأسـه، متأملا، ثم التفت إلى كبار القوم، قائلاً: أعدوا ملاطًا!
راح جعفر وطالب ينفذان الطلب.
انطلق الأمـيـن صـوب الحجر الأســود، ثـم نـزع الـعـبـاءة وبسطها على الأرض. ضــاقــت حـلـقـة الـمـحـتـشـديـن مــن حــولــه، وأتــلــعــت الـصـفـوف الخلفية أعناقها، تتدافع نحو الأمام، وتعلقت الأنظار بذاك الشاب، الحسن الذكر، الجميل الصيت، ابن الخمس والثلاثين. كل يريد أن يعرف کیف يحل محمد ببنان الـفـراسـة والتدبير، العقدة العويصة تلك!
أحنى الأمين ظهره، ورفع الحجر الأسود، ووضعه وسط العباءة، ثم تعالت منه نبرة واضحة آسرة: لتأخذ كل قبيلة بطرف من العباءة، ثم ارفعوه جميعًا حتى يبلغ موضعه من الركن! نهض الأشــراف إلـى الأمـيـن، وقـد بهرهم ذكــاءه ومـلأهـم عدله ارتـيـاحـًا، فـانـثـالـت مـن أفــواه الـحـاضـريـن كـلـمـات الـثـنـاء، وتـصـاعـدت منهم زغاريد الفرح.
أجـل، الحجر القابع وسـط عـبـاءة الأمـيـن، نـال الارتـفـاع على يد الأشــراف، ومـن ورائـهـم لفيف الـبـطـون يـمـوج بعضه فـي بـعـض، في سرور وحبور.
وعـنـد الــركــن، أخــذ الأمــيــن الـحـجـر الأســـود بــيــده، وحــطــه في موضعه الخالي، ثم قـال: فليأتِ كل بطن شـارك في البناء، يصب الملاط؛ كي يستقيم الحجر في مكانه.
ها هي الطامة قد انتهت، وغمرة النزاع انجلت، فصار يتبادل الابـتـسـامـات، ألــد الـخـصـام، مـمـن كــان مـتـعـطـشـا، قـبـل سـويـعـات لسفك الدماء.
يتبع..