أخلاق - هـا هو اليتيم بعين الله |61|

ثقافتنا
هـا هو اليتيم بعين الله
|61|

أقبل الأمـيـن مـع الـغـروب على الـحـرم، مرهقًا مـن عمل كـاد، مارسه طيلة الـنـهـار؛ فمنذ زواجــه بـخـديـجـة، أخـذ عـلـى عـاتـقـه تـدبـيـر الأمـور خـارج الـدار: من المقايضة حتى إنفاذ القوافل التجارية إلـى اليمن والـشـام، وإرسـال السلع إلـى الأسـواق الموسمية الرائجة في الأشهر الـحـرم وأيـام الـحـج، ثـم أخـذ على نفسه - وإن كـان مـنـزهـًا مـن رذائـل التجار - أن يعيد النظر في الدخل والخرج والأموال.
أنس محمد بالطبيعة منذ نعومة أظفاره، ولم ينقطع عنها قط ّحتى في الأربعينيات وكم تمنى لو حالفته الفرصة ليرتمي في كنفها الـهـادئ، ويتفيأ ظلالها الـوادعـة؛ فيخلص إلـى عزلته السحيقة ليجوب عالم رموزه..
ليته لم يضطر على البقاء بين ظهراني الناس، ليته يشطر عن دنياهم، ويخلو إلى نفسه في أحضان الطبيعة، ويقلب في السماء عينيه المترقبة، حتى يتوفاه الله، أو يفتح له مغاليق خزائن أسراره.. كـان الحرم على عادته عند الـغـروب، مكتظًا بالحشود، بعض يطوف، وآخر يمتثل خاضعًا لصنم بطنه.
لكن أبـا القاسم لما ورد الـحـرم - كعادته بالطواف، وراح يبتهل على طريقته الخاصة، معرضًا عن الأوثان، لا يتمسح بها، بل لا يلقي إليها بالاً ولا يخصها بنظرة .. «إذ رأيت منه ذلك - وقد سبق أن شاهدته على هذه الحال بضع مرات - سألته: لمَ يا أبا القاسم لا تعبد ما نعبد من الأصنام،ِ ولا تعكف عليها ساجدًا؟
 ردّ علي قائلًا: كيف أسجد - يا أبا بكر - لوثن منحوت، صنعته الأيدي، أصنام لا تضر ولا تنفع؟». عزم محمد على العودة من الحرم إلى الدار، فالتقى بورقة بن نوفل، عند الباب، وهو يضرب الأرض بعصاه، يلتمس به - كما بدا لمحمد - سبيل الرجوع إلى داره. تنصر ورقة العجوز الراهب لم يكن قد تخلى عن الطواف وإن منذ سنين طـوال، وابيضّت عيناه، فكان كل مساء يطوي أزقـة مكة المنحدرة تحت القدمين، مهتديًا الطريق بعصاه؛ ليبلغ الكعبة وينال الطواف. خطا إلـيـه محمد خـطـوات، فــرآه يــذرف الـدمـوع، عرف محمد أن ورقة يرثي خليله القديم، زيد بن عمرو، الذي انقطعت أخباره منذ ّمدة.  
طبت عصر 
– آه، هذا أنت يا أبا القاسم، وطبت كذلك!
– أراك ملتاعًا، مفرق الحال، أنال صاحبك زيدًا خطب ما؟  
ما إن طرقت العبارة سمعه، حتى انفجر، باكيًا
ربّت محمد كتفه الهزيل، يواسيه، ثم راح يسأله: أتلقيت عن زيد نبأ ما؟
نشف ورقة عينيه الذابلتين، والعبرة تأخذ بخناقه، ثم ردّ قائلاً: نعم، يا ولدي. مات زيد.. قتلوه .. - قتلوه؟.. 
أين؟.. متى؟ 
- نعم، يا ولدي، قُتِل في طريق العودة من الشام، قرب خيبر، قتله الصعاليك من بني خفاجة.. 
يتبع..