أخلاق - أحسن الأعمال |1|
أحسن الأعمال
|1|
"وبعملي إلى أحسن الأعمال"
لنرى من خلال إضاءات الإمام نفسه وسائر أهل البيت سلام الله عليهم ما هو المقصود بـ "أحسن الأعمال" التي ينبغي للمؤمن أن يطلب من الله تعالى أن ينتهي بعمله إليه؟ ونبدأ بالوقوف على الرواية التالية:
الإمام الصادق سلام الله عليه ينصح أحد الأصحاب:
"عن الحسين بن أبي العلا قال: خرجنا إلى مكة نيف وعشرون رجلاً فكنت أذبح لهم في كل منزل شاة فلما أردت أن أدخل على أبي عبد الله عليه السلام قال لي: يا حسين وتذلّ المؤمنين؟ قلت: أعوذ بالله من ذلك. فقال: بَلَغني أنك كنت تذبح لهم في كل منزل شاة؟ قلت: ما أردت إلا الله. فقال: أما كنت ترى أن فيهم من يحب أن يفعل فِعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك فتتقاصر إليه نفسه. قلت: أستغفر الله ولا أعود" - بحار الأنوار: 73 / 269، ح 20.
هذه الرواية ينقلها العلامة المجلسي رضوان الله عليه، الحسين بن أبي العلاء الذي يروي قصته مع الإمام الصادق (عليه السلام).
يقول الحسين بن أبي العلاء: "خرجنا من مكة نيف وعشرون رجلًا" والنيف بين الثلاثة والعشرة.
"فكنت أذبح لهم في كل منزل شاة".
يعني أنه كان يتبرع لهم بشاة من أمواله في كل منزل ينزلونه في طريق سفرهم إلى بيت الله الحرام، ولم يذكر عدد المنازل فربما بلغت عشراً أو عشرين أو أقل أو أكثر.
وهذا العمل كما هو واضح لا إشكال فيه ولا شبهة بل لولا بقية الرواية لقلنا إنه من أفضل الأعمال وأحسنها.
فما هو الأفضل من إطعام المؤمنين وهم في طريق الحج إلى بيت الله الحرام؟
إذا كان الإطعام في حد ذاته عملاً مستحباً كما هو كذلك فكيف بإطعام المؤمنين؟ وكيف إذا كانوا في طاعة الله تعالى؟ ولكن الإمام سلام الله عليه عندما التقاه عاتبه ووبّخه، يقول الحسين بن أبي العلاء: "فلما أردت أن أدخل على أبي عبد الله عليه السلام قال لي: يا حسين وتذلّ المؤمنين؟"أي هل بلغ بك الأمر أن تذلّ المؤمنين؟
وهنا تأثر الحسين بن أبي العلاء، ومن حقه أن يتأثر؛ لأنه لم يصدر منه إزاء المؤمنين إلا العمل الحسن والإطعام على نفقته، والإمام سلام الله عليه يقول له: "أوتذلّ المؤمنين؟" ولذلك قال: "أعوذ بالله من ذلك" أي أعوذ بالله من أن أذل المؤمنين، وكيف كان ذاك؟
فقال له الإمام: "بلَغني أنك كنت تذبح لهم" أي للمؤمنين في كل منزل تنزلونه شاة وتطعمهم على نفقتك الخاصة!
إن الحسين بن أبي العلاء لم يكن إنساناً عادياً بل هو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق سلام الله عليهما، وكان يريد بعمله وجه الله تعالى، كما يظهر في جوابه للإمام (قلت ما أردت إلا الله) وعدم إنكار الإمام ذلك.
لقد أراد الإمام سلام الله عليه في هذه النصيحة أن يلفت نظر الحسين بن أبي العلاء إلى أن عليه أن يتحرى "أحسن الأعمال»"وأن بلوغه يتطلب وعياً دقيقاً وعوناً من الله تعالى.
فبالرغم من أن الإطعام الذي قام به كان عملاً حسناً خاصة وأنه كان لله تعالى، ولكنه لم يكن أحسن الأعمال.
وذلك ما وضّحه الإمام بقوله: "أما كنت ترى أن فيهم من يحب أن يفعل فعلك فلا يبلغ مقدرته ذلك فتتقاصر إليه نفسه".
فربما كان في هؤلاء الذين تطعمهم من يحب أن يفعل الشيء ذاته، أي يقوم هو بإطعام المجموع ولو مرة واحدة، كما تقوم أنت بذلك، لمكان محبوبيته، ولكن لم تكن لديه القدرة المالية على ذلك، فكان يحسّ بالضعف أو الضعة أو شيء من الذلّ.
لا شك أن هذا ليس من الإذلال الحرام وإلا لردعه الإمام ونهاه.
إن الإمام ههنا ليس في وارد النهي عن المنكر بل هو بصدد الإرشاد إلى أحسن الأعمال، فكان الأولی بالمنفق هنا أن يلتفت إلى هذه النكتة الدقيقة التي أشار إليها الإمام ويعالجها بطريقة ذكية (كأن لا يظهر أن الإطعام كله منه) وليس المقصود الصدّ عن الإطعام البتة.
وهذا من لباب النصائح، وقل من يتحملها إلا من أوتي حظاً من العلم والدين. ولذلك نلاحظ أن الحسين بن أبي العلاء أدرك مقصود الإمام فوراً وقال: "أستغفر الله ولا أعود" أي سوف أكفّ عن الإطعام بنحو يشعر من أطعمهم بشيء من التقاصر (أي قصور النفس وما أشبه).
حقاً لولا أهل البيت سلام الله عليهم لما عُبد الله حق عبادته
يتبع..