شهر رمضان - فلسفة الصوم |3| الجزء الثاني
ديننا
فلسفة الصوم
|3| الجزء الثاني
الصوم مشروع تغيير روحي
البيان العلوي يعبّر في سياق نفس الهدف من الصوم وهو تحقيق العبوديّة التامّة والكاملة لله، (والصيامُ ابتلاء لإخلاص الخلق)، أي أنه امتحان واختبار لمدى إخلاصهم لخالقهم وطاعتهم له، فالله تعالى مالك الملك، خالق الخلق، المنعم المفضل يريد من عبده أن يخلص له، لأنّ ما سوّاه لا يستحقّ النظر إليه ولا يملك نفعًا ولا ضرًّا للعبد، فأقرّ الصوم ليرى عبده في مواطن طاعته والخضوع والتذلّل له ممتحِنًا لجلده وصبره على ترك الشهوات والملذات.
وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزي به) بحار الأنوار /ج ٩٣، فالصائم يشعر ولو كان وحيدًا بمراقبة الله تعالى له مما يثبِّت حالة الإخلاص لله في نفسه، ومع مراعاة هذا الأدب الباطني يشعر الصائم بالأنس مع الله تعالى فيعشق عبادته.
فالصوم صعبٌ أن يدخل فيه الرياء، وفيه حالةٌ من الخلوة بين العبد وربّه؛ فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّنًا منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربًّا يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفًا من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر الله له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ
إنّ الصوم من أجلّ وأجمل العبادات، وأكثرها تحقيقًا للتكامل البشري وتعميقًا لمفاهيم التقرّب والعبوديّة، فهو ممّا بُنِيَ عليه الإسلام، ولقد ورد في أحكامه وفضائله وحِكَمِه الكثير، فهو أحد الصحّتين وهو علّة استواء الغني والفقير، وهو الصبر المقترن بالصلاة في محكم الكتاب، وهو تسكين الأطراف وتخشيع الأبصار وكاسر الشهوات والملذّات، إلّا أنّ التأمّل في الروايات الشريفة والآيات الكريمة يشعرنا بحكمتين وغايتين عليهما التركيز والمحوريّة، وهما: التقوى والإخلاص، فالغاية الأسمى للصوم هي الوصول إلى التقوى الاختياريّة المنتقلة تدريجيًّا من العقل الفردي إلى العقل الجمعي، وتثبيت الإخلاص المتزلزل بطبيعته عند النفس البشريّة عبر ابتلاء هذا الإخلاص وامتحانه أيّامًا معدودات في محضر الأنس والضيافة الإلهيّة.
إنّ المنهج والفكر العلوي شاملًا جامعًا ومانعًا، فهو يبدأ مع الصائم متابعًا له ومرشدًا وملهمًا من حين رؤية الهلال، مرورًا بكيفيّة الصوم؛ عبر تحقيق الحكم الإلهيّة المبتغاة من الصوم، وصولًا إلى المفهوم الأعمق للصوم وهو صوم المقرّبين من الحضرة الأحديّة؛ حيث يصل المسافر إلى مقصده، ويشرق نور الله في قلبه، ليستحقّ حينئذٍ الثناء الإلهي بل ثناء جميع الموجودات.