www.tasneem-lb.net

واحة تسنيم

واحة تسنيم - صومُ اليَمَن

صومُ اليَمَن

بقلم الأخ أحمد بزي

أكثر ما التفتتْ إليه قبل خروجها هو حجابُ رأسها. كسرتْ بطرف عباءتها حمرة الخجلِ في وجهها. شدت بطرف أسنانها على القماش ومشت.
حدقات عينيها في حِراكٍ مرتبك. إنها ستخرج لأوّل مرة من منزلها من دون علم زوجها. كانت تفكر في ذلك طوال خمسة أيام. 

اليوم قرّرت. تركت باب البيتِ مشرّعاً.
- يقولون أنهم يوزّعون الآن أطباقاً من اللّحمِ على الصائمين في الحي. 
تركتْ في البيتِ ابنتاها جالستان عند أبيهما الذي فتك مرض السكري برجليه. لقد خرج من المستشفى منذ يومين مبتور القدم اليسرى. يكادُ أنينه لا يهدأ. 
رقية ابنة التسع سنوات، تصوم لأول مرّة كمكلفة. مريم قد سبقتها إلى ذلك، فهي تكبرها بحملٍ واحد. 
كانت أوضاع العائلة قبل أربع سنوات ميسورة. كان قاسم يعمل سائقاً في شركة لتوزيع الحبوب، قبل أن تتدهور حالته الصحية، وقبل أن يعصف حزم المملكة الهشّ بالبلاد.
إنها حال الشركات المتوسطة والكبيرة. كل الشركات، مع تباشير أي أزمة، تقلص من أعداد موظفيها، وقاسم زادت في المدة الأخيرة من عمله إجازاته المرضية. كان لا بدّ أن يكون الاستغناء عنه أمراً بديهياً. كان يشعر بذلك أصلاً. المادية الرخيصة تشوّه ثقافات المؤسسات التجارية في بلادنا أحياناً. وهكذا حدث. لم يكن التعويض كافياً حتى لإجراء العملية الأولى لقدمه اليمنى حينها.
لقد خرجت "راضية" وهي تحلم لابنتيها أن تناما في هذه الليلة الرمضانية ببطونٍ قد تغذت على اللحم. لم يدخل لحم أبيض او أحمر أمعاءهما منذ أربعين يوماً. 
خطواتها كانت أشدّ ثقلاً من الجبال وإن دُكّت. كانت خجلة على قدر خجل التاريخ من كلّ معاناة المعذبين. تشدُّ أصابع قدميها إلى داخلِ نعالها، وتحجبُ امتداد أنفاسها خارج هالتها، ولو أُتيح لها لأخفت ظلها.
قد تكون قصّة "راضية" عادية بالنسبة لكثيرين، أو فلنقل أننا نحن الناس اعتدنا أن نسمع عن قصص كهذه. أصبح الحرمان شيئاً مألوفاً.
وصلت العفيفة إلى شبّاك التوزيع. 
كانت قد تردّدت ألف مرة في الطريق. تريدُ أن ترجع. 
- كيف سمحتُ لنفسي أن أخرج في طلب شيءٍ من الناس؟.
لكنها برّرت في داخلها، بأنها لا تطلب شيئاً لنفسها إنما لابنتيها، ثم إنها أقسمت أنها لن تتذوّق من ذلك الطعام.
لم تكن مريم ولا رقية تسألان أصلاً عن اللحم. بطناهما شبعت عفة وكتماناً. تربية والديهما اليمنية العزيزة قد حفرتْ عميقاً.
- ما زالت حالتنا أفضل بكثير من آلاف العائلات التي أصابها الطاعون والحمّى. شفى الله كلّ أقربائنا، هكذا كانت تردّد راضية في آخر شهرين من العدوان، أي منذ الأيام الرّجبية.
مريم ورقية قد اعتادتا في شهر رمضان أن تفطرا مع أمهما على شربة ماء، وكسرات الخبز، وربما التمر. بالأمس كانت ليلة الجمعة وكان اللبن وكسرات الخبز أشهى من العسل. خصوصاً وأنّ والدهما قد عاد من المشفى. كان يفترض أن يبتر قدمه منذ شهرٍ لكنّ العملية تأجلت نتيجة الضغط على العمليات في المستشفى.
دعت راضية أن لا تلتقي بمن يعرفها عند التوزيع. تريد أن تأخذ حاجتها وتمضي على متن أقرب عاصفة ليِّنة. 
- راضية، يا راضية! تعالي بسرعة لم تبق إلا حصصاً معدودة. خذي. قالت المرأة المشرفة على التوزيع.
ثم هتفت الحاجة أم كاظم بالناس.
- يا كرام، الحمد لله على ما أنعم. لم يبق شيء لليوم. غداً إن شاء الله اسألوه بقلوب مطمئنة عسى أن تكون الحصص أوفر.
نحن كقراء، بتنا نتفهّم الآن جيداً سرّ ارتجاف يدي راضية عند استلام حصّتها، لكنّ المرأة التي تخدم الناس بالتوزيع لم تعرف. 

إنها ارتجافة قلبها في الحقيقة.
- ترى هل هناك بطون جوعى أكثر منا. نحن لم نتذوق لحماً منذ أربعين يوماً. ماذا عن غيرنا؟ أرجعيها يا راضية. اللبن وفير الليلة، وملح الدموع وفير، وكسرات الخبز الوفيرة نتقاسمها مع الليل أيضاً. 
في طريق العودة إلى الدار، خبّأت الحصة تحت رداءها، حياءً لا طمعاً. 
طرقتْ أوّل باب عن يمينها. خلعت نعالها عند العتبة. انحنت مستقيمة الظهر. وضعت ما في يدها أرضاً. تصدّقت. ثم استقامت. 
ذاب الخجل عنها. ارتفعت أوتاد الجبال عن صدرها. كسرتْ بطرف عباءتها بقية الخجلِ في وجهها. شدّت بطرف أسنانها على  القماش ومشت. حدقاتُ عينيها في ثباتٍ نحو السماء.
عادت كما خرجت.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد