www.tasneem-lb.net

شهر رمضان

شهر رمضان - من فيض المجتبى

ديننا
من فيض المجتبى

أغلق باب الدار، وصوت بكاء طفله يخترق كل جوارحه. ومن خلفه زوجةٌ سقت ثوبها الرثَّ من ماء عينيها، بكت حتى جفّت مآقيها.
مشى خطواتٍ قليلة متعثِّرًا بنعله الممزق، نظر نظرة آيسٍ إلى قدميه كيف صارتا كخشبتين، رمى نعله جانبًا ثم مضى حافيًا على رمالِ الصحراء الحارقة. كان محنيَّ الظهر غير أن ظهره لم يكن يؤلمه، لكنَّه كان يحاول طيَّ جسمه ليُسكتَ صراخ أمعاءٍ خاوية.
مشى لا يدري إلى أين! لسعته أشعة الشمس، وجفّت شفاهه من الظمأ. وجد نفسه على مشارف المدينة فدخلها. دار في أزقتها حائرًا، وأمام عينيه صورة وجه زوجته باكيةً شاكية. "لم أعد أحتمل بكاء طفلي الجائع! أقسم أني أكاد أموت، أنا لم أعد أستطيع صبرًا!" الهمُّ أحنى ظهره أكثر. خارت قواه ولم يعد يستطيع الوقوف على رجليه. رفع بصره فرأى مئذنة المسجد، انشرح صدره، شيءٌ ما جعله يشعر بالأنس، شيءٌ ما جعله يدخل المسجد مستقيم الظهر.
جلس في إحدى الزوايا، لم يكن الوقت وقت صلاة، لذا لم يكن المسجد مكتظًا. كان منهكًا من المسير والجوع والعطش فغفا.
وما لبث أن استفاق على صوت يخاطبه، كان رجلًا بدت على وجهه سيماء المؤمنين. قال له: "قم يا أخي، سأدلك على باب الفرج، اتبعني".
مشى خلفه كتلميذٍ يمشي خلف أستاذه، اجتازا بعض الأزقة حتى توقف الرجل وأشار بإصبعه إلى دار متواضعة قائلًا: "اطرق باب هذه الدار، فأهلها أهل السخاء، لم يردّوا أحدًا قط". نظر إليه متعجبًا، "هذه دار الحسن ابن علي".
وقف أمام باب الدار، آنسه الوقوف بالباب، لم يدر لماذا استشعر كل هذا الأنس! همَّ برفعِ يده لطرقه وإذا به يُفتح. وجهٌ كأنه البدر ليلة تمامه، لم يستطع إلا التحديق به، أسره نوره وجلاله وجماله. سلم عليه بوقارٍ وحياءٍ فردَّ الإمام (عليه السلام) قائلًا: ".. ويدي تعجزُ عن نيلكَ بما أنتَ أهلُه، والكثيرُ في ذاتِ اللَّه قليل، وما في مُلكي وفاءٌ بشكرك، فإن قبلتَ الميسور، فعلت".
فقال الرجل: "يا ابن رسول اللَّه أقبل القليل، وأشكر العطيَّة، وأعذر على المنع".
فإذا الإمام ينادي وكيله، فقال (عليه السلام): "هاتِ الفاضلَ من الثلاثمئة ألف درهم" فأحضر الوكيل خمسين ألفًا. فقال الإمام (عليه السلام): "ما فُعِلَ بالخمسمائة دينار"؟ قال الوكيلُ: "هي عندي" فقال الإمام (عليه السلام) "أحضِرها". فأحضرها، فدفع الإمام الدراهم والدنانير إلى الرجل وأمر بإحضار حمّالين لحملها. ثم خلع الإمام الحسن (عليه السلام) رداءه، والرجل ينظر إليه كأنما الطير على رأسه! وإذا بالإمامِ يدفع رداءه لكراءِ الحِمل (أجرة الحمالين). فقال له مواليه: "فوالله ما عندنا درهم"! فقال (عليه السلام): "لكي أرجو أن يكون لي عند اللَّه أجرٌ عظيم"، (مستدرك الوسائل-ج7).
أغلق باب الدار، وصوت الإمام يخترق كل جوارحه. ومن خلفه رجلين يحملان أمواله.
خرج مستقيم الظهر، تكاد أقدامه لا تلامس الأرض، دموعه تغسل غبرة الصحراء عن وجهه، مشى تحت الشمس غير آبهٍ بها، فحرارة العشقِ أحرقت كيانه.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد