أخلاق - ها هو اليـتيـم بعين الله |8|
ديننا
ها هو اليـتيـم بعين الله
|8|
لهذه الحادثة قصة، تعود إلى عقود سلفت، حيث شمّرتُ الساق كي أحفر زمزم؛ فتألب عليّ سادة تسعة بطون من قريش، وبلغ الأمر بنا ما بلغ من رحلة الموت تلك.
لمّا نجونا من الفلاة الجرداء، وارعوى الركب عن غيّهم، واعتذروا إليّ، زعمت أنهم سيخلّوا بيني وبين الحفر.
في الأيام الأولى من عودتنا إلى مكة، سارت الأمور على ما يرام، رغم أنني كنت اصطلي عذابًا بغموم الأيام التي ذهبت هدرًا؛ لتمادي القوم في العناد واللجاج. بل ما زلت أعتقد أن القوم لم يتطاولوا عليّ إلا لقلة الولد والناصر والمعين.
استمر بنا الحال على هذا المنوال حتى أميط عن الكنز أكوام التراب..
همّ عبد المطلب بحفر باطن الأرض، ماضيًا في رجزه، وقد هدّه الإرهاق، وضعضع منه الأركان.
ألحّت الحرارة على الأرض، فقهرت عبد المطلب، وغمّست سرباله بالعرق.
توقفت يدا عبد المطلب عن الحركة، إذ التقطت عيناه شواظًا أوراه نصل المعول، وهو يصطدم بشيء نحاسي.
ماذا عساه أن يكون!
ابني الحارث أدل الزنبيل!
أدلى الحارث المكتل فعبّ فيه عبد المطلب التراب، ثم أطلق سبيله نحو الفوهة. والآن قد حصحص له الأمر، فتبيّن أن قطعة فلزية قلتمة شقّت طريقها في التراب لتلتقي بالمعول.
صقل عبد المطلب القطعة وجلاها بضرباته اللينة، المتفاقمة السرعة. ثم أخذت الأرض في يسر ويسار للحفر تنقاد.
لاحت للعين، درع عتيقة فولاذية، مع عدد من مسامير عفتها الليالي والأيام، عريضة الرأس، مرباعة.
امتدت إلى قلب عبد المطلب أمواج الجذل الهادئة، فترآى له في ذلك أيضًا برهان صدقه. واندفعت عضديه القوة؟
فصاح هلمّ يا حارث أدِل الزنبيل!
عرف الحارث أن أمرًا ما قد وقع، فقام على فرح وعجل يلبّي ما أمر.
درع عتيق! يا لمعدنه، موفور، سالم، أنظر إليه؟ لم يصدأ على مدى السنين.
باليقين أقطع أنه من تلاد بني خزاعة في مكة، وأظن ظنًّا أنه كنز ظفر به ابن هاشم.
-يا حارث، أرسل الزنبيل! حسناً، يا أبتِ! درع، ست أسياف قلعية من فولاذ الشام، وغزال ذهبي، وآخر مثله. ها هم القوم يجتمعون حول الحفيرة ويلمون بها محتشدين.
بـطـرفـة عـيـن، ذاع الـخـبـر فـي مـكـة، فتقاطر إلـى الـحـرم ومـوضـع الحفرة، أشراف البطون من قريش، ومن لفّ لفّهم من رجال المدينة؛ مما اضطر عبد المطلب أن يصرخ بأعلى صوته بين الحشد، علّ الحارث يسمعه. أخذت الأيدي تتخاطف السيوف الحديدية، والغزلان الذهبية الثقيلة، حتى أوشـك أن يستفحل النزاع بينهم.
قـال هشام بـن المغيرة بحنَق جاهدَ فـي كظمه: يـا بـن هاشم، سبق لك منّا العهد على أن تكون زمزم خالصة لك من دوننا، وألا نشركك فيها وها نحن الآن نعاودك العهد، إلا أن الكنز هذا شيء آخر. عليك أن تقسّمه بين بطون قريش العشر.
وفي هذه اللحظة، وصل حرب بن أمية - من أبناء عبد مناف، وأقرباء عبد المطلب - ثم أقبل يشقّ طريقه بين الحشد. اتجه نحو عبد المطلب ووقـف عنده، ثم رفع صوته عاليًا: إنما هو لبني عبد مناف؛ فقد احتفر أحدهم وظفر، وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة.
أثار كلام حرب حفيظة القوم فهاجوا وماجوا، واحتدمت بينهم الخصومة، فهمّ عبد المطلب أن يسكت سخط من صنّ أذنيه عمّا لم يرقه من الحديث، فصار بينهم هو المعزول عن صـم السمع، والممتنع عن الكلام.
كلا، لم يكن عبد المطلب ممن يبتغي عرض الدنيا وزبرجها، ولم يك عاكفًا على حطامها وزينتها، وإنما رفض الخنوع؛ لأنه كان يأبى الظلم والزور، فهو طيلة حياته قد ربأ بنفسه عن ذرة ضيم تركبه العار والهوان. اشتدت به قسوة الوحشة والغربة، وتصدّع قلبه حزنًا وأسفًا؛ فهو يــدري أن الـقـوم لـم يـتـجـاسـروا عليه بـل لـم يـتـصـدوا لـه إلا لقلة العدد والناصر والمعين.
يا ليته كان يملك من الذكور عشرًا. يا ليته، فلو كان يملك! اصطنع القوم الأناة، وخضعوا بالنعرات والصيحات، فتحوّلت منهم الفوضى إلـى تمتمة، لما رأوا عبد المطلب صامتًا، رغم فـقـدان الـعـون، وغياب النصير.
يتبع..