أخلاق - ها هو اليـتـيم بعين الله |13|
ديننا
ها هو اليـتـيم بعين الله
|13|
تــوسـلــت إلــى عـبـد الله أن يــؤجّــل رحـلـتـه الـتـجـاريـة إلــى الــشــام، ويـنـصـرف عنها وقـتـًا مــا. قـلـت لــه: تـعـصـرنـي عليك الـهـواجـس، ولا تطاوعني نفسي في رحلتك. ابتسم في وجهي، وقال: لا تقلقي، ولا تجعلي للخوف عليك سبيلا؛ فقد ألفت قريش منذ سحيق الأعوام رحلة الصيف والشتاء، تستدر بها غزير الأربـاح، ووفير الخير.. وإلا ماتت من جوع وإملاق.
- إذن تمهل بعض الوقت لم يمر على زواجنا إلا شهورًا.
- وعليّ كذلك يشق البين والفراق. لكن، ما باليد حيلة؛ فليس على الإنسان إلا الكدح.
هذه بَوادي مكة قاحلة، تشكو الجدب، بل تضن على أهلها حتى بسنبلة.. هي جرداء، غير ذات زرع، يستحيل بها الرعي، إذن لا بد من التجارة حتى لا تقسو علينا الحياة.
- معه الحق فيما راح إليه؛ فجدّه هاشم أيضًا عرف ذلك إذ سنّ الرحلتين، رحلة اليمن والشام، في الشتاء والصيف. وها هي رحلة الصيف لو تخلّف عنها عبد الله لاضطر تكلف الانتظار ريثما تنطلق قـافـلـة الـشـتـاء. نـاهـيـك أنـهـا فـرصـة ذهـبـيـة سـانـحـة.
أقنعني عبد الله وأفحمني إذ قـال: يراودني الأمـل، ويهفو بي الـشـوق لأنــال جــوارك سـاعـة الـــولادة، وهــذا لا يتحقق لـو التحقت بركب الشتاء. ثم أمرني بالصبر والسكينة وأوصـانـي برباطة الجأش والدعاء لأوبة قريبة، محملة بالأرباح وعريض الأموال.. لم يكن عليّ إلا القبول والسكوت.
منذ سويعات انثالت المدينة إلا بعضها نحو الخارج، تترّقب العير تحت وطأة الشمس الشرسة.
اضـطـربـت مـكـة هــائــجــة.. مـائـجـة بـعـد أن حـمـل إلـيـهـا ذاك الفارس المرهق الأشعث بشائر القدوم، فأعدت النساء الدور بكل جَلبة وســرور، ثم استيقظن والفجر مسرعات.. راكبات أو راجلات، فتوجهن في لهفة يحملن بين أيديهن الصغار، إلـى لقاء الأخـوة والأزواج،
مـن الـنـاس مـن جلس على صـفـة مـفـروشـة ببساط مـن الشعر أو الوبر، مستظلًا بسقيفة شفيفة، ومنهم من حمل مظلة منسوجة بـزاهـي الأقـمـشـة، تـتـخـللها أعـواد مـن خشب. وبينهم يتقافز الصبية ويـتـطـايـرون إلــى الـفـضـاء بـعـالـي الـصـيـاح، دون أن يـعـیـروا للـشـمـس ولـفـحـاتـهـا البال. كـانــوا يـخـاتـلـون بـيـن مـجـاهـل الــصــخــور، ثم يطلبونهم من حيث لا يشعرون.. بـيـن فـيـنـة وأخـــرى كــان بـعـض الــراصــديــن يـسـعـى فــي اسـتـبـاق الآخرين إلى استشراف البطحاء، أو إلقاء نظرة فاحصة على الطريق ليكون هو البشير باقتراب العير. فـي طـلـيـعـة الــســراة، كــان عـبـد الـمـطـلـب فـيٍ انـتـظـار مـع ابـنـيـه «الحارث وعبد مناف» ومن ورائهم فاطمة وآمنة..
تعالت الهتافات بغتة مـن الفتية المترصدين بالمشارف: ها هو العير قد وصل.. وصل!
الـقـوم اضـطـرب، الـجـالـس منهم قـفـز. الـواقـف مـدّ الـعـنـق ليجتلي الـمـشـهـد.
آمـنـة وعبد المطلب أخـذ القلب منهما يخفق فـي الصدر ثم يخفق.
بعض اعتلى المشارف ليشهد قفول العير بأم العين.
لاح الـجـمـل الـحـادي شـيـئـا فشيئا بـجـرسـه الـضـخـم، المتميّز بين صحبه من الجمال.
ثم هناك من بعيد، تناهى إلى المسامع جلبة القافلة، ونواح الجلجلة الحزين الحنين.
احتشد المستقبلون حول القافلة؛ فخففت الإبل السرعة حتى توقفت عن السير في رفق ولين.
انبهمت الأصـوات بين سـؤال وعتاب، وضحك وبكاء، بين ود وحب ولثمة.
ببهت ودهشة، فتشنا عن صاحبنا بلا جدوى. وعبد المناف أيـضـا طـاف بفرسه حـول القافلة مـرات ومــرات، وجـاس الـركـب، دون أن يجد لأخيه عينًا أو أثـرًا، فرجع إلينا ليعلن على والده أن لا أثر لعبد الله.
مـتـأكـد؟ سـألـه عـبـد الـمـطـلـب، وهــو عـلـى يـقـيـن أن لا محل للسؤال؛ فهل يمكن أن يكون عبد الله بين الركب ويتكلّف الأناة ولا يندفع إلى أهله.
يتبع..