أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |23|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|23|
لبثنا في يثرب ثلاثين ليلة، كانت مولاتي خلالها تنقطع إلـى عبد الله، وتنفرد فـي دار النابغة بمثواه، ناحبة، ضـارعـة؛ فتثير العجب الـعـجـاب فـي نفس مـن لا عهد لـه بسيدتي ومـا يربطها بـزوجـهـا من إثر أواصــر الـود والـوئـام؛ فينكر عليها حزنها المحض، ونـواحـهـا الـمـر ستة أعــوام مـن رحـيـلـه!
إلا أنني كنت أتوجس خيفة من أن يتحسس محمد الأمر، فتشتد به الأشجان.
غمرت محمدًا الفرحةُ لما أحسن في يثرب العوم، اذ لم تكد مـكـة تملك مـن بـرك الـمـاء؛ لـيـتـمـرس فيها الـصـبـيـان الـسـبـاحـة حتى الإتقان.
يا لطيب المقام في رحـاب يثرب الحنون الخضراء.. ها هو محمد صـار ينعم فـي الـجـنـة، حـيـث ينبعث شـذا الـنـخـيـل، وأريـجـه الفواح.
لا مناص من العودة فسيدتي قد اجترحها الوهن والهزال، وعليّ أن انزح بها عن يثرب ومثوى زوجها؛ عل الأتـراح عنها تنجلي والأحـزان، فقلت لها: مولاتي لا بد أن سيدي عبد المطلب قد آب من اليمن: فعلينا ألاّ نـتـأخـر فـي الـرجـوع، وإلا سينتابه الـقـلـق ويـتـمـلـكـه الاضـطـراب. أيدتني مولاتي، فهممنا على شد الرحال، وأعددنا الـزاد، وانطلقنا مـن غـد يومنا مـع الفجر كـان الـجـو فـي يـثـرب صيفًا، إلا أن الحرارة لم تكن كاوية.
مـضـت الـقـافـلـة فــي طـريـق الـجـنـوب، بـيـنـمـا كــان يـتـرنـح فــي مـؤخـرة طابورها الطويل، بعير آمنة الفاقع، بهودجه الخشبي، وأسدال صفر بـلـون الـبـعـيـر. وعـلـى ظـهـر الـمـركـب، اسـتـكـان مـحـمـد فـي حـجـر أمـه، وظلت بركة تسايرهما على متن ناقتها الفاحمة.
أغـمـضـت آمـنـة الـعـيـنـيـن، واسـتـنـدت إلـى نـمـرقـة جـلـد صغيرة، بالخوص، وضمت محمدًا إلى صدرها، ثم أسلمت،
ما لبثت أن أفاقت آمنة على هدير الجمال، مما كانت تتملاه من الذكريات.
- سيدتي، سينيخ الركب هنا، ليأخذ قسطه من الراحة ويرفه عن الجسم بعض الشيء
أيـدتـهـا آمـنـة بـإيـمـاءة لـطـيـفـة. ثـم مـالـتـا بـهـامـات الـجـمـال يـسـارا، بين النخيل.
فلما بركت الناقة على الأرض، وانتبذتا من القفل مكانا قصيا، استيقظ محمد على صرير هودجها، وخرج من المحمل.
جففت آمنة بمنديلها الحريري الناصع ما على جبين طفلها الـعـرق الـنـاضـح كـقـطـرات الـنـدى،
شمر محمد سرباله المخطط عن الساق، وانطلق إثر أمه، وهو في نشوة النعاس. وقـفـا عـلـى ضـفـاف نـهـر قـاحـل جـــاف، فـغـسـل مـحـمـد الـوجـه تصب عليه أمه من القربة، ثم التحقت بهما بركة، واليدين بما كانت بعد أن فرغت من عملها. تداولت آمنة الشابة والفتاة صب الماء، ثم ساقت بركة النياق إلى حيث البئر؛ لتسقيها.
جاءت بركة ببساط صوف أبيض، ففرشته آمنة تحت ظل نخلة، ثم أخرجت خوانًا وقديرًا نحاسيًا من عدل بعير بركة.
أما محمد فقد كـان منهمكًا فـي الـبـحـث عـن شـيء مـا بـيـن الأعـشـاب الـنـابـتـة خـلال النخيل.
أخرجت آمنة من القدير قليلاً من الحلواء، ولفته بقطعة من الـخـبـز الـمـرقـق، وقـدمـتـه إلــى مـحـمـد، ثـم الـتـقـطـت لنفسها بـعـضًـا، وأعطت القدير إلى بركة.
انـصـرف محمد وبـركـة إلـى الأكـل، ولكنها لـم تتمكن مـن تناول طعامها، فاكتفت بلقيمات. ألـقـت بـركـة عـلـى سـحـنـة آمـنـة الـمـمـتـقـعـة، نـظـرة خــوف ووجــل، وبادرتها بالسؤال: -
سيدتي، كأنك لست على ما يرام؟ .
لا، بل لا أشتهي الطعام، ربما بسبب الحر.
مالت الشمس إلى أقصى السهل لتتخذ فيه مستقرًا ومقامًا، بـيـنـمـا أمـعـنـت الـقـافـلـة فـي الـسـيـر نـحـو مـكـة، وحـثـت الـخـطـى لتبلغ مأمنها، قبل أن يجن عليها الليل.
سأل محمد بركة، وهو إلى جانبها في الرحل: ومتى الوصول إذن يا حاضنة!
أجابته بلطف: نحن لم نقطع من الطريق إلا ليلتين، وإذا سرنا على هذا المنوال، فسنبلغ مكة بعد ليال ثمان.
سأل محمد وهو يتثاءب: وهل سيعود جدي من اليمن حتى ذاك الحين؟ - نعم وربما قد عاد.
- ومتى يرحل الناس عن هذه الدنيا، ويموتون، يا حاضنة؟
- إذا أصابهم الكبر، وطعنوا في السن.... ترى لم تسأل؟
-أمات والدي عن كبر سن؟
-ما هذا الذي تقوله، يا عزيزي الصغير!؟
- كان عجوزا،
-لا بل شابًا مرض فـمات إثر حمى؟ -
نعم، على ما يبدو!
– وأمــي، قـد انـتـابـتـهـا حـمـى، ونـحـن عـلـى أعـتـاب الــخــروج من يثرب، فهل هي أيضا...!؟
غص محمد بالعبرة، ثم أمسك عن السؤال، فضمته بركة إلى صدرها بحنان، وقالت: مهلا، يا عزيزي الصغير مهلا، ومن قال إن كل من تعتريه الحمى يموت؟ ثم استطردت في الحديث عسى أن تصرف محمدًا عن أسئلته تلك، أتحب جدك كثيرًا؟
لــم يـــرد مـحـمـد بــجــواب،
- أتعرف كم ربيعًا طوى جدك من العمر؟ ما يناهز المئة! ألم الحمى؟ لا، يا حبيب الحاضنة...! إنما الإنسان - للحظات تعتريه مـا - يجتاحه الـمـرض، ثـم يـبـرأ مـن غـده ويـعـتـدل. قالته بـركـة والقلق يساورها؛ فإن الذي بآمنة أوسع من أن يكون لوحشة الفراق الوشيك أو الحزن على زوجها.
يتبع..