أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |37|
ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|37|
طـفـلـت الـشـمـس ومـالـت لـلأصـيـل. وخــف مـا كــان يــدوي في سوق دومة الجندل من الزحام والضجيج. أغلقت الـدكـاكـيـن، واحــدة تلو الأخــرى، نقل زيد بصره عن السوق، ثم التفت إلى محمد ليقول: أجل، هكذا، يا ولدي، أشرك الموحدون بالله وألقوا بأيديهم إلى الشقاء، إلى التهلكة والضلال. بدت على محمد بوادر الاستعجال، فعاجله زيد بالقول: قم، يـا ولــدي؛ فـإنـك تـريـد - كـمـا يـبـدو - أن تـكـون فـي عــون عـمـك، قم واذهب إليه، بارك الله فيك.
أخذت وطأة السموم تخف رويـدًا رويـدا بعد دومة الجندل؛ فرقت لها حواشي الطبيعة، وطاب الجو والفضاء، ثم لاحت ملامح الحياة، بــل بـــرزت مـعـالـمـهـا، وانـتـعـش الــعــراء بـعـد الــجــفــاف، لم تكد تمر على الرحلة في وادي الشام بضع ليال، حتى لامس محمد الفوارق بين أهله والأعراب في السحنة والبنية والطباع. وإن لم يلتق إلا بفئة قليلة منهم فأدرك أنهم ليسوا على بساطة الحجاز وما كان عليه أهلها من الصدق والإخلاص، بيد أن الشوام كانوا أكثر ليونة، وأحلى عشرة وأقوى على الصبر والاحتمال.
اطـلـع أبـو طـالـب عـلـى محمد مـن فـوق الـجـمـل، ثـم قــال، وهـو ينوء بصدره: هنا في شرق الشام حاضرة كبيرة، فيها سوق رائجة.
نظر محمد إلى عمه نظرة ملؤها الحمد والحب والثناء. بلغ الركب مشارف المدينة ولما يدخلها بعد؛ فلاح من البعيد سواد الجنان والعمائر المحيطة.
أوعــز أبــو طـالـب إلــى الـعـيـر بـالـوقـوف؛ فـــأدار الــرجــال هـامـات الـجـمـال نـحـو مـتـرامـي الـسـهـول حـيـث مـجـمـع الـنـخـيـلات بـالـبـسـتـان.
كان ذاك البناء المطل من الربوة صومعة، لم تبلغ من العمر عـتـيـا؛ إذ لا تناهز الأربـعـيـن، شـيـدهـا عظيم الـرهـبـان، بـحـيـرى، ومنذ ذلـك الـحـيـن، انـشـطـر عـن دنـيـا الـنـاس، وآثــر هـو ونـفـر مـن أتـبـاعـه أن يقضوا بها العمر في النسك والعبادة. كـان قـد ذاع صيت الصومعة وبحيرى واسـعـا، يـوم حـل ركبنا عند السفح، فالناس كانوا يتجاذبون عن راهبه الأحاديث، وتتداول ألسنتهم الحكايات تلو الحكايات.
انفتحت بـوابـة الـصـومـعـة فــور اسـتـقـرار الـعـيـر، فـبـرز منها فتى ضـامـر الـخـصـر. واتـجـه نحو البستان حيث مـربـع الأشــراف مـن مكة، فرحب بالقوم ونفحهم بالتحايا، ثم سأل عن رئيس الركب وزعيمه، فدلوه على أبي طالب. انطلق إليه ليقول: أقـرأ عليك تحية سيدنا بحيرى وتهانيه وأدعوك ومن يلازمك إلى مأدبة غداء في الصومعة، وذلك بعد أن ترفهوا عن الجسم شيئًا، وتمنحوه من الراحة قسطا. فمرحبا بقدومكم وأهلاً وسهلًا بكم في صومعتنا.
تـمـلـك أبـــا طــالــب وصـحـبـه الاســتــغــراب، فــقــال أحــدهــم: إن هـذا لـشـيء عـجـاب! الـراهـب الكبير - يـا للسعادة - يلقي بـالاً إلى المساكين! - منذ بعيد الآماد، نلقي رحلنا لليلة وضحاها في هذا المكان، لكنني لا أتذكر يومًا أن الراهب شملنا برعايته، وأعارنا اهتمامه! لـم يحر الفتى الـراهـب جـوابا فطأطأ رأســه، وأخـفـض بعينيه العسليتين إلـى الأرض. فـتـدارك أبـو طـالـب الموقف الـحـرج؛ فغير مسار الحديث وصبه في مجراه الصحيح؛ إذ قال بصوت يسيل رقة ولينا: بكل فخر واعتزاز.
للراهب بحيرى الشكر والثناء. الحقيقة أن صحبي اندهشوا لغرابة عنايته؛ فإنه لا عهد لهم برعايته.
ساور الراهب رضی، وطاب نفسًا مما تفوه به أبو طالب برفق ولطف، فقال: أنا أيضًا في حيرة من أمر أستاذي، لكن لا بد له من هدف أو دليل؛ التفت أبــو طـالـب إلى الفتى الراهب قائلاً: إقرأ على بحيرى تحايانا، وألقِ عليه منا السلام، وبلغه أن الأمر أمره، سنلبي الدعوة.
يتبع..